- بلادى توداى
- 5:06 ص
- أبحاث ودراسات ، ركن الفتاوى
- لا توجد تعليقات
سئل سائل :
يتحدَّث الناس كثيرًا عن الوسيلة ما بين مُجيز ومُحَرِّم، نريد تحديد المراد منها وبيان حكمها الصحيح ؟
موضوع الوسيلة والتوسُّل اشتد الخلاف فيه أخيرًا، وبخاصة عندما نُشِرَ كتاب الوسيلة لابن تيمية، ففريق قال بمشروعيته، وفريق آخر قال بعدم مشروعيته، وقد تغالى كلٌّ من الفريقين في التمسُّك برأيه، والتغالي في كلِّ شيء مدْرَجَةٌ إلى التعصُّب إن لم يكن هو التعصُّب نفسه، وهو يُؤَدِّي إلى نتائج خطيرة، أدناها تمزُّق المسلمين وأقصاها رمي بعضهم بعضًا بالكفر، وترجمة ذلك إلى معاملات عنيفة .
موضوع الوسيلة والتوسُّل اشتد الخلاف فيه أخيرًا، وبخاصة عندما نُشِرَ كتاب الوسيلة لابن تيمية، ففريق قال بمشروعيته، وفريق آخر قال بعدم مشروعيته، وقد تغالى كلٌّ من الفريقين في التمسُّك برأيه، والتغالي في كلِّ شيء مدْرَجَةٌ إلى التعصُّب إن لم يكن هو التعصُّب نفسه، وهو يُؤَدِّي إلى نتائج خطيرة، أدناها تمزُّق المسلمين وأقصاها رمي بعضهم بعضًا بالكفر، وترجمة ذلك إلى معاملات عنيفة .
والتعصُّب من الفريقين أدَّى إلى إسراف كلٍّ منهما في حشْد الأدلة التي تؤيد وجهة نظره حتى لو كانت ضعيفة السند، وإلى الإغراق في تأويل ما صحَّ سنده ليقف إلى جانبه حتى لو كان التأويل بعيدًا،
وإلى الاستشهاد بما وقع من كبار الشخصيات، حتى لو كانوا ممن لا يؤخذ عنهم التشريع.
وهذا أمر لا يُقرُّه الدِّين الذي يدعوا إلى الوحدة، وإلى الاعتدال وعدم التعصُّب وعدم الإسراف . فهناك نصوص محْكَمة قطعية الثبوت واضحة الدلالة، وهناك أصول راسخة تُكوِّن المعالم الأساسية للدين، يجب أن يُحتكم إليها، ويُردُّ كلُّ اختلاف إلى ما تدُل عليه، وذلك لتقريب وجهات النظر وتخفيف حِدة التعصُّب، قال تعالى ( هوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخُرُ مُتَشَابِهَات فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُون مَا تَشَابَه مِنْه ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وابْتِغَاءَ تَأْوِيلِه وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَه إلا اللهُ والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُون آمَنَّا بِه كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إلا أُولُو الألْبَابِ ) ( آل عمران : 7 ) .
إن المُغالين في الإنكار على التوسُّل عمدوا إلى نصوص واردة في الكفار وطبَّقوها على المسلم الذي يؤمن بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ رسولاً، كما فعل الخوارج من قبل، فحكموا على كثير من المسلمين بالكفر بناء على نصوص وردت في الكافرين. نقل البخاري عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنه كان يقول : شرار خلق الله الخوارج، عمدوا إلى آياتٍ نزلت في المشركين فجعلوها في المسلمين . ومثل ذلك قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما .
وذلك كاستشهادهم بقول الله تعالى حكاية عن المشركين (مَا نَعْبُدُهُمْ إلا لِيُقَرِّبُونَا إلى الله زُلْفَى ) ( الزمر : 3 ) في أن من يتوسَّل إلى الله بشخص كان مُشْرِكًا، مع أن المُتوسِّل لم يَعبد مَن توسَّل به .
والمغالون في التوسُّل أفرطوا في حبِّ الصالحين فوضعوهم فوق ما يستحقون، حتى قال بعضهم : إن فيهم من يتصرف في الكون، وإن كان ذلك كله بإرادة الله تعالى، لكن الاعتقاد في سُمُوُّ منزلتهم كاد ينسيهم رَبَّهم . والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ حذَّر من التغالي في حبه، مع أن حبه في قمة الحب الواجب على المؤمن، كما في الحديث الشريف " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، أن يكون اللهُ ورسُوله أحبَّ إليه مما سواهما وأن يحبَّ المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يُقْذَفَ في النار "فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ " لا تُطْرُوني كما أَطْرت النصارى المسيحَ ابن مريم، ولكن قولوا عَبْدُ الله ورسوله " .
والحد الوسط الذي يجب أن نقف عنده جميعًا، ونلتقي عنده إخوانًا متحابِّين هو :
1 ـ الاعتقاد بوحدانية الله تعالى، لا شريك له في مُلْكِه، هو الخالق والرازق والنافع والضار، وإليه يُرجع الأمر كلُّه، وكلُّ شيء يَمَسُّ هذه الوَحْدَانية ممنوع.
2 ـ الاتجاه بالعبادة إليه وحده، لا نُشْرِك به أحدًا فيها كما قال سبحانه ( إياك نَعْبُدُ وإيَّاك نَسْتَعِين ) ( الفاتحة : 5 ) وقال ( قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًا إلا ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ ومَا مَسّنيَ السُّوء إنْ أنَا إلا نَذِير وَبشِير لِقَوْم يُؤْمِنون ) ( الأعراف : 188 ) .
3 ـ الإيمان بأن الله يُكرِّم من يشاء من عباده بما يشاءُ من فضله ومن أنواع هذا الإكرام قبول دعائه والاستجابة له، كما قُبِلَ دعاءُ المرسلين بتحقيق الخير لهم أو دفع الشر عنهم . ومن ذلك ما ورد في سورة الأنبياء عن دعاء نوح بنصره على من كذَّبه، ونجاته ومَن معه من الغرق، وأيوب بكشف الضر عنه، ويونس بنجاته من بطن الحوت، وزكريا بطلب الذُّرية . وما ورد في سورة البقرة وإبراهيم عن دعاء إبراهيم وإسماعيل بأمْن البلد الحرام والحج إليه، وبعث رسول في الأمة المسلمة من ذريتهما .
ومن الإكرام قبولُ الشَّفاعة للناس بإذنه ( مَنْ ذَا الَّذي يَشْفَعُ عِنْدَه إلا بِإذْنِه ) ( البقرة : 255 ) ( ولا يَشْفَعُونَ إلا لِمَنْ ارْتَضَى ) ( الأنبياء : 28 ) ( وَلا تَنْفَعُ الشّفَاعة عِنْدَه إِلا لِمَنْ أَذِنَ له ) ( سبأ : 22 ) .
ومن الإكرام منْع العقاب عمن يستحقونه من أجل وجود من يحبُّه الله فيهم، كما قال تعالى (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُم وَأَنْتَ فِيهِمْ ) ( الأنفال : 33 ) .
4 ـ الإيمان بأنَّ الله قادرٌ على أن يَخْرق العادات التي أَلِفَها الناس ونظَّموا عليها أمور حياتهم، وخَرْقُ العادة إن كان لنبي سُمِّيَ معجزة، وإن كان لولِيٍّ صالح سُمِّيَ كرامة، وفي القرآن والسنة عن أخبار المعجزات والكرامات كثير .
5 ـ كلُّ مَنْ ظهرت على أيديهم المُعْجِزات والكَرَامَات يَعْتَقدون أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ فهو فاعلها، ولا قدرة لهم عليها إلا بقدرته تعالى ولم يَنْسِبَها أحدٌ لنفسه على الحقيقة، مع جواز ذلك على سبيل المجاز، وذلك واضح في قول عيسى عليه السلام ( أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيِه فَيَكُون طَيْرًا بِإذنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَه والأبْرَصَ وَأُحْيي المَوْتَى بِإذْنِ اللهِ ...) ( آل عمران : 49 ) .
6 ـ عبادة الله يجب أن تكون على الوَجْه الذي ارتضاه للتقرُّب به إليه، وما سوى ذلك مرفوض، وهذا الوَجْه الذي ارتضاه موجود في كتابه وسُنَّة نبيه، ومنه ما هو واضح لا غموض فيه، وما يحتاج إلى بيان قام ببعضه الأئمة المجتهدون . وما كان مُجمَعًا عليه أو دليله قطعي الثبوت والدلالة لا يجوز العدول عنه، وما كان غير ذلك كان للاجتهاد فيه نصيبٌ، ولا يجوز القطع بأن من خالفه فقد عصى الله ورسوله، وذلك مبسوط في كتب الأصول .
7 ـ يجب اعتبار النيَّة عند الحكم على أي فعل يصدر من العبد كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ " إنَّما الأعمال بالنيات وإنما لكلِّ امرئ ما نَوى " . وإذا لم نَعْلَم نِيَّة العبد وجاز لنا أن نحْكُم على الظاهر فإن هذا الحكم لا يكون قطعيًا تترتب عليه آثار خطيرة على النفس أو المال أو العِرض أو الدين . وقد صح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : " إني لم أومر أن أُنقِّب عن قلوب الناس ولا أشقُّ بطونهم " والذي يحكم الحكم الصحيح على العبد هو الله سبحانه وتعالى؛ لأنه أعلم بنيته، فإن أفصح لنا العبد عن نيته وقصده كان الحكم عليه صوابًا أو أقرب إلى الصواب .
ومعرفة الحقيقة والمجاز في اللغة العربية تُفيد في هذا الموضوع . فلو قال أحد مثلاً : المطر هو الذي أنبت النباتَ، وأسند الإنبات إلى المطر حقيقة دون تدخُّل من قدرة الله وإرادته كان ذلك كُفْرًا، أما إذا كان يعتقد أن الإنبات هو بقدرة الله وأن المطر لا يعدو أن يكون سببًا فذلك أمر لا غُبَار عليه، ولا يجوز رمْي قائله بالكفر . وأسلوب المجاز مُسْتَعمل بكثرة عند العرب وموجود في القرآن الكريم والسنة النبوية .
8 ـ إذا وجدنا خطأً في العبادة قولاً أو عملاً وجب علينا أن ننبِّه المخطئ إليه؛ لأن ذلك من ضمن ما كلَّفنا الله به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذي ينبِّه على الخطأ مَن يعلم بأنه خطأ، قال تعالى ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةُ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُون بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْن عَن الْمُنْكَر وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون ) ( آل عمران : 104 ) . ويجب أن يكون التنبيه بالأسلوب الذي رسمه الله تعالى لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِاْلحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتي هي أَحْسَن ) ( النحل : 125 )، فمن كان جاهلاً بالحكْم كانت الوسيلة تعليمًا له والتعليم لا بد أن يكون حكيمًا يُخْتار له الأسلوب المناسب . ومن كان عالمًا بالحكم ولكنه مقصِّر في التطبيق كانت الوسيلة وعظًا له قائمًا على الترغيب في الخير والترهيب من الشر، ويلزَم أن يكون الأسلوب مُهَذَّبًا متناسبًا مع حجم الموضوع وحال من يوجَّه إليه النصح، ومن كان مُتَعَصِّبَا لفكره أو أسلوبه لا ينقصه العلم ولا تفيده الموعظة، فهو يلجأ إلى المناقشة والجدال كان التحاور مع بالطريقة المُثلى، يختار لها أحسن الأساليب؛ لأن طرفي النقاش يقفان موقف النِّد للند، والفائز منهما من يُدلي بأحسن ما عنده قَوْلاً وفِعْلاً .
9 ـ من أهم ما يساعد على تقريب وجهات النظر، وجمع أصحاب الفكْر على كلمة سواء، تحرير المراد من الألفاظ وتحديد المفاهيم، ولهذا سنبدأ ببيان معنى الوسيلة والتوسُّل وما يُراد منهما، ثم نذكر الحكم بما يتفق مع هذا المعنى .
معنى الوسيلة والتوسُّل :
جاء في مختار الصحاح : الوسيلة ما يُتقرب به إلى الغَيْر، والجمع: الوسيل والوسائل والتوسل واحد، يقال : وسَّل فلان " بالتشديد " إلى ربه وسيلة، وتوسَّل إليه بوسيلة إذا تقرَّب إليه بعمل.
وجاء في القاموس المحيط : الوسيلة: المنزلة عند الملك، وتوسَّل إلى الله تعالى عمل عملاً تقرَّب به إليه .
وفي القرآن الكريم جاء لفظ الوسيلة في موضعين، أولهما: في قوله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِين آمَنُوا اتَّقُوا الله وابْتَغُوا إلَيْه الوَسِيلة ) ( المائدة : 35 )، ثانيهما: في قوله تعالى ( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُون يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِم الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ) ( الإسراء : 57 ) كما جاء في السنة في قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلُّوا عليّ، فإنه مَن صلَّى عليّ صلاة صلى الله بها عليه عشرًا، ثم سلُوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبدٍ من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلَّت له الشفاعة " .
أما المراد منها في الحديث فواضح؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو الذي بيَّنه، لكن المراد بها في الآيتين يتردَّد بين أمرين، أولهما: القُرْبَة أو الطاعة التي يتوصل بها الإنسان إلى ما يريد، وأفضل ما يريده المؤمن هو رضوان الله تعالى، وثانيهما: الغاية أو المنزلة التي يُتَوَصَّل إليها بالقُرْبة أو الطاعة .
جاء في تفسير القرطبي للآية الأولى : الوسيلة : فعيلة مِن توسَّلت إليه أي تقربت، قال عنترة :
إن الرجال لهم إليكِ وسيلةٌ أن يأخذوكِ، تكحَّلي وتخضَّبي
وعليه فالوسيلة هي القُرْبة والعمل، كما قال الحسن ومجاهد وقتادة وعطاء والسُّديّ وغيرهم . وجاء في تفسيره للآية الثانية أن معناها : يطلبون من الله الزُّلْفة والقُرْبَة، ويتضرعون إلى الله في طلب الجنة وهي الوسيلة. وعليه فالوسيلة هي الغاية المطلوبة من العمل .
وذكر ابن الأثير في " النهاية " بعد ذكر حديث مسلم المتقدِّم هذه المعاني الثلاثة فقال : الوسيلة في الأصل ما يُتَوَصَّل به إلى الشيء ويُتقربُ به، والمراد في الحديث القُرْبُ من الله تعالى، وقيل: هي الشفاعة يوم القيامة، وقيل هي منزلة من منازل الجنة، كما جاء في الحديث .
ومن هنا نرى أن الوسيلة قد يُراد بها الطريقة الموصِّلة إلى الغاية، أو الغاية نفسها بصرف النظر عن تحديدها أو الغاية الخاصة المحدَّدة، وهي منزلة في الجنة، ولا خلاف بين أحد من المسلمين في هذا الإطلاق، إنما وقع الخلاف في المعنى الأول عند تحديد الطريقة التي يَتوسَّل بها الإنسان إلى رضوان الله تعالى، ومع ذلك لا يشكُّ أحد في أن هذه الطريقة ـ بشكل إجمالي ـ تقوم على أمرين أساسين، أولهما: الإيمان، وثانيهما: التقوى أو العمل الصالح، كما قال تعالى ( إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتِ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً ) ( الكهف : 107 ) وقال ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْييَّنَّه حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزيَّنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونُ ) ( النحل : 97 )
لكن الخلاف يدور حول بعض الألفاظ والعبارات المتعلقة بالإيمان والتقوى، نذكر أهمها فيما يلي :
1 ـ التوسُّل إلى الله بالنبي والأنبياء :
لا شك أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسيلتنا إلى الله، من حيث إنه مُعَلِّمٌ ومُرْشِد، فطاعته وحبُّه أساسه حبُّ الله للعبد، قال تعالى ( قُلْ إِنْ ُكْنُتْم تُحِبُّونَ اللهَ فاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذنُوبَكُمْ ) ( آل عمران: 31 )، وقال (مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فقَدْ أَطَاعَ اللهَ ) ( النساء : 80 )، وكذلك دعاؤه لنا من وسائل القُرْب من الله، وأيضًا شفاعته العُظْمى يوم القيامة، وشفاعته الخاصة لبعض أمته، والذين يسألون له الوسيلة بعد إجابة المُؤَذِّن، كما سبق في الحديث الذي رواه مسلم . ولا يختلف في ذلك أحد من المسلمين، إنَّما الخلاف في قول بعض الناس : اللهم إني أتوسل إليك بنبيك أن تغفر لي، أو أستشفع به إليك وهذا القول يحتمل توجيهين :
الأول : التوسل بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليدعوَ له، وهذا لا يشكُّ أحد في جوازه وبخاصة في حياته، فقد طلب الصحابة منه الدعاء فدعا لهم وأُجيب دعاؤه .
روى البخاري عن أنس ـ رضي الله عنه ـ أن رجلاً جاء إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يخطب على المِنبر يوم الجمعة وقال : يا رسول الله، هلك المال وجاع العيال، فادع الله لنا . فدعا النبي فنزل المطر مدة أسبوع فقال الأعرابي : تهدَّم البناء وغرِق المال، فادع الله لنا . فدعا فقال " اللهم حَوالَيْنا ولا علينا " فانزاح السحاب .
وجاء في البخاري عن أنس أيضًا أن عمر ـ رضي الله عنه ـ كان إذا قَحَطُوا استسقى بالعباس فقال : اللهم إنا كنا إذا أجدبْنا توسَّلنا إليك بنبيك فتُسقينا، وإنا نتوسَّل إليك بعمِّ نبينا فاسقنا، فيُسقَوْن . فكان العباس يدعو وهم يُؤَمِّنون لدعائه فَسُقُوا .
الثاني : التوسُّل بذات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، بمعنى أن يدعو الداعي ربه راجيًا الإجابة إكرامًا للنبي لمنزلته عنده . ومِثْل النبي في ذلك غيره من الأنبياء، فيقول الداعي : أسألك اللهم بنبيك، أو بجاه نبيك أن تغفر لي .
وهذه العبارة تحتمل أمرين :
(ا) أحدهما: القَسَم وأداة القَسَم هي الباء مثل : بالله أن تجلس أو تفعل كذا، على معنى أُقسم بالله . والجمهور يمنعون القسم بغير الله يقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " من كان حالفًا فلْيحلف بالله أو ليَصمُت " . وأجاز أحمد بن حنبل في رواية عنه القسَم بالأنبياء .
(ب) وثانيهما عدم القسم، إذا أُريد بالباء السببية، والمعنى أسألُك يا الله بسبب نبيك أن تُكْرِمَني، فإن كان المراد : بسبب الإيمان به وحبُّه وطاعته فلا غُبار عليه؛ لأنه توسُّل بعمله هو، وهو قُرْبَة إلى الله تعالى . وإن كان المراد : بسبب ذاته، أو بسبب منزلته من الله ووجاهته عنده، فهذا هو الذي احتدم الخلاف حوله بين العلماء .
ففريق ينكره؛ لأن مجرد الجاه لا يُعطي الشفاعة، وعلى رأس هذا الفريق ابن تيمية، وقد ألَّف في ذلك رسالة خاصة، حاول فيها أن يرُدَّ ما جاء عن الصحابة في جوازه، إما بالطعن في السند بالضعف، أو الوقف على الصحابة، أو على مَن ليس قوله أو فعله حُجَّة، وإما بالتأويل، فيؤوِّل ما ثَبت منه على أنه توسُّل بدعاء النبي أو دعاء غيره، كما حدث في استسقاء عمر بدعاء العباس، وكما حدث في حديث الأعمى، وسيأتي بعدُ، ومنه توسُّل الناس في الموقف يوم القيامة بالأنبياء ليشفعوا لهم عند الله، أي ليدعوا الله لهم، وأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدعو، بعد أن يرفع رأسه من السجود تحت العرش، فيقول له ربه : ارفع رأسك وسلْ تُعْطَ، واشفعْ تُشفَّع . فيقول: يا رب أمتي. وفريق يُثْبِتُه، ومنهم العز بن عبد السلام الذي قال في فتاويه : لا يجوز أن يُتوسَّل إلى الله بأحد من خلقه إلا برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إن صحَّ حديث الأعمى .
واستدل هذا الفريق بما أُثر في ذلك، ومنه :
1 ـ كان أهل الكتاب بنو قريظة والنضير يتوسلون بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل وجوده لينصرهم الله على أعدائهم . قال تعالى في اليهود ( ولمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِين كَفَرُوا ) ( البقرة : 89 )، فكانوا إذا قاتلوا المشركين قالوا : اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان، فينصرهم الله .
2 ـ عن عثمان بن حُنيف أن ضريرًا طلب من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يدعوَ الله له بالعافية، فأمره أن يتوضأ فيُحْسِن الوضوء ويدعو بقوله " اللهم إني أسألك وأتوجَّه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا رسول الله إني توجَّهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتُقْضَى لي، اللهم فشفِّعه فيَّ " وفي رواية " فإن كان لكَ حاجة فمثل ذلك " قال عثمان : فواللهِ ما تفرَّق بنا المجلس حتى دخل علينا بصيرًا كأنه لم يكن به ضُر .
وجاء أن عثمان بن حُنيف أرشد رجلاً إلى ذلك فقضى له عثمان بن عفان حاجته . ويَردُّ الفريق المانع بأن الشفاء ليس بهذا الدعاء، وإنما بتوسُّل الأعمى بدعاء النبي وشفاعته، ولو توسَّل غيرُه من العُمْيَان بتوسُّل الأعمى بدعاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، بالسؤال به لم تكن حالهم كحاله . لكن أجاب هؤلاء بأنه لا مانع أبدًا أن يكون الشفاء بدعاء الأعمى لربه مسْتشفِعًا بالنبي، ولذلك قال : اللهم فشفِّعه فيَّ . وقد كان الأعمى صادقًا في الدعاء خاشعًا فاستجاب الله له، ولو صدقَ غَيْرُه وخشع في دعائه ما كان هناك مانع من الاستجابة . وما دام الأمر فيه احتمال فلا يتحتَّم المنع .
3 ـ علَّم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أبا بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ أن يقول " اللهم إني أسألك بمحمد نبيِّك وبإبراهيم خليلك ..." ورُدَّ عليه بأنه حديث غير صحيح .
2 ـ التوسُّل إلى الله بحق النبي والأنبياء
..........................................................:
جعل بعض العلماء هذه العبارة كالتوسُّل بذات النبي والأنبياء وجاهِهِم ومنزلتهم عند الله، فيقال فيها ما قيل من قبل .
ففريق يُنكره كابن تيمية ومن معه . ومَن قبلهم أبو حنيفة وأصحابه حيث قالوا : لا يُسأل بمخلوق، ولا يقول أحد : أسألك بحق أنبيائك . قال القَدوري في شرح الكَرْخِيّ في باب الكراهة : لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأَكْره أن يقول : بمعاقد العز من عرشك، أو بحق خلقك . وهو قول أبي يوسف، قال أبو يوسف : بمعقد العزِّ من عرشه هو الله، فلا أَكره هذا، وأكره أن يقول : بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام والمَشْعَرِ الحرام . قال القدوري المسألة بخلقه لا تجوز؛ لأنه لا حق للمخلوق على الخالق، فلا تجوز وفاقًا.
ويُعلِّق ابن تيمية في رسالته على ذلك بما مُلَخَّصه: إن الذي قاله أبو حنيفة وأصحابه من أن الله لا يُسأل بمخلوق له معنيان: أحدهما: المنع بالقَسَم بالمخلوق على المخلوق، وبالأوْلى على الخالق، والحلِف بالمخلوقات حرام عند الجمهور، وهو مذهب أبي حنيفة وأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد، وقد حُكي إجماع الصحابة على ذلك، وقيل مكروه كراهة تنزيه : والأول أصح؛ لأن الحلف بغير الله شرك .
أما الحلف بالأنبياء فعن أحمد روايتان، إحداهما لا ينعقد اليمين به، كقول الجمهور مالك وأبي حنيفة والشافعي، والثانية ينعقد اليمين به، واختار ذلك طائفة من أصحابه كالقاضي وأتباعه .
ويردُّ ابن تيمية على ادِّعاء بعضهم أن الإمام مالكًا يجيز التوسل بالأنبياء، أي السؤال بهم إلى الله، ويقول : إنَّ قول مالك لأبي جعفر المنصور ـ الذي سأله، أأستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله ؟ ـ ولمَ تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم ـ عليه السلام ـ إلى الله يوم القيامة ؟ بل استَقْبِله واستشْفع به فيُشفِّعك الله، قال تعالى : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ َجاءوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ) ( النساء : 64 ) سنده منقطع . ووضَّح ابن تيمية وجوه ضعْف هذه الحكاية؛ لأن مالكًا وغيره إذ يقول باستقبال الرسول ـ عليه السلام ـ يقول باستقبال القِبْلَة في الدعاء .
وهذا الخبر جاء في كتاب " شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق " للنَّبْهاني . أن القاضي عِياضًا ذكره في الشفاء، وساقه بإسناد صحيح رجاله ثقات ليس فيه وضَّاع ولا كذَّاب، كما قال ابن حجر في " الجوْهر المنظَّم " : رواية ذلك عن الإمام مالك جاءت بالسند الصحيح الذي لا مَطعن فيه، وقال الزُّرقاني في شرح المواهب اللَّدنِّية رواها على بن فِهْر بإسناد جيد، كما ذكرها السُّبكي في " شفاء السِّقام في زيارة خير الأنام " والسَّمْهودي في (خلاصة الوفا) ووضَّح النَّبْهاني ذلك في ص 187 من كتابه " شواهد الحق " . وذكرها المغني لابن قدامة " ج 3 ص 590 " .
وفريق لا ينكر التوسُّل بحق النبي والأنبياء، فلهم حقٌّ على الله، كما أن لغيرهم حقًا عليه سبحانه . قال تعالى : ( وَكَانَ حَقًا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِين ) ( الروم : 47 ) وقال ( كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِه الرَّحْمَة أَنَّه مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِه وَأَصْلَحَ فَأَنَّه غَفُورٌ رَحِيم ) ( الأنعام : 54 ) وفي حديث الصحيحين يقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ " يا مُعَاذ، أتدري ما حق الله على عباده " ؟ قلت : الله ورسوله أعلم، قال : حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، يا معاذ أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك " ؟ قال " حقُّهم عليه ألا يُعَذِّبهم " .
وهذا الحق عام لكل العباد، وعلى رأسهم الأنبياء والمرسلون، فهو كجاههم ومنزلتهم يجوز التوسُّل به . ومما يدل على ذلك ما يأتي :
(ا) عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال : لما ماتت فاطمة بنت أَسَد ـ رضي الله عنهما ـ وكانت ربَّت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وهي أمُّ علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ دخل عليها الرسول فجلس عند رأسها وقال : رحمَكِ الله يا أمي بعد أمي . وذكر ثناءه عليها وتكفينَها ببُرْده وأمره بحفر قبرها، فلما بلغوا اللَّحد حفره ـ صلى الله عليه وسلم ـ فاضطجع فيه ثم قال : " الله الذي يُحْيي ويميت وهو حي لا يموت، اغفر لأمِّي فاطمة بنت أسد، ووسِّع عليها مُدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي، فإنك أرحم الراحمين " .
وهذا الحديث رواه الطبراني في الكبير والأوسط وابن حِبان والحاكم، وصحَّحوه .
(ب) روى البيهقي بإسناد صحيح في كتابه " دلائل النبوة " الذي قال فيه الحافظ الذهبي : عليك به فإنه كلَّه هدى ونور : عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " لما اقترف آدمُ الخطيئة قال: يا رب أسألُك بحق محمدٍ إلا ما غفرت لي فقال الله تعالى : يا آدمُ كيف عَرَفت محمدًا ولم أخْلُقْه ؟ قال : يا رب إنك لما خلقتني رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبًا : لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تُضفْ إلى اسمك إلا أحبَّ الخلق إليك . فقال الله تعالى : صدقتَ يا آدم، إنه لأحب الخلْق إليَّ، وإذْ سألتني بحقه فقد غفرتُ لك، ولولا محمدٌ ما خلَقْتُك " ورواه الحاكم أيضًا وصحَّحه والطبراني، وزاد فيه " وهو آخر الأنبياء من ذريتك " . وهذا الحديث روى مرفوعًا وموقوفًا على عمر .
وردَّ عليه المانعون بأن تصحيح الحاكم مما أُخذ عليه في هذا الحديث وغيره .
(جـ) روى ابن ماجه بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدْري ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " من خرج من بيته إلى الصلاة فقال : اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممْشاي هذا إليك، فإني لم أخرُج بطِرًا ولا أشِرًا ولا رياءً ولا سُمعة، خرجت اتِّقاء سخْطِك وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تعيذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، أقبَل الله عليه بوجهه، واستغفر له سبعون ألف ملك " وذكره السيوطي في الجامع الكبير . ويقول المعلِّق على كتاب الوسيلة لابن تيمية : إسناده ضعيف .
(د) هناك أحاديث أخرى مثل " إذا سألتمْ الله فاسألوه بجاهي، فإن جاهي عند الله عظيم " يقول ابن تيمية عنه: إنه كذِب، وحديث دعاء الحفظ الذي جاء فيه : " وأسألك بحق نبيك … " يقول عنه : إنه مُنكَر وحديث الأربعة الذين دعوا عند العكبة، ذكره ابن أبي الدنيا في مُجاب الدعوى، ويقول عنه ابن تيمية أيضًا إنه كذِب .
يقول المانعون للتوسُّل بحق النبي والأنبياء : صحيح أن حقَّ الأنبياء على الله لا مِرْيَة فيه، ولكنه بمعنى رفع الدرجات وقبول الشفاعات والدُّعاء إذا شاء، كما قاله سبحانه : ( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَه إلا بِإذْنِه ) ( البقرة : 255 ) أما أنْ يكون مجرد هذا الحق مما يقتضي إجابة الدعاء إذا سأل أحدٌ اللهَ به، فذلك غير مُسلَّم . لكن يمكن أن يُقال في الرد على هذا : إن تفسير الحق للأنبياء بذلك فقط تحكُّم لا دليل عليه . فلماذا لا تكون ذواتهم ووجودهم وسيلة للخير، كما قال تعالى ( ومَا كَانَ الله لِيُعَذِّبهم وأنت فيهم )، كما كان لوجود العباس نفسه عند الاستسقاء أثرٌ في رحمة الله لعباده عند الاستسقاء ؟ وليس عمر بأقلَّ درجة من العباس في قبول الدعاء لو كان المقصود هو الدُّعاء فقط .
3 ـ التوسُّل بغير الأنبياء :
.............................................
التوسُّل إلى الله بالصالحين من عباده إن كان بمعنى طلب الدُّعاء منهم فلا مانع أبدًا، وقد طلب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من عمر ـ رضي الله عنه ـ ألا ينساه من دعائه عندما استأْذنه للسَّفر إلى العُمْرة وأمر أُويْسًا القرَني أن يسْتَغفر له . وأمر أُمَّته بطلب الوسيلة له، كما مرَّ في حديث مسلم عند إجابة المؤذن .
وإن كان التوسُّل بذواتهم وجاههم فإن كان بمعنى القَسَم فلا يجوز؛ إذ لا يجوز القَسم من العباد بغير الله، وفي الأنبياء خلاف تقدَّم، وإن كان بغير القَسم ففيه الرأيان المذكوران في الأنبياء . ففريق يُثبته ويستدل باستسقاء عمر بالعباس، وكذلك بتوسُّل معاوية ومن معه من الصحابة والتابعين بيزيد بن الأسود الجَرَشِي، وكذلك بما سبق في حديث الخروج إلى المسجد " اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك …" وذلك إلى جانب أنه لم يرِد نصٌّ يمنع من هذا التوسُّل . وفريق ينْكره، ويُؤول ما ورد من ذلك إما بضعف السند، وإما بمعنى الدعاء، فإن بعض العباد لهم منزلة عند الله يستجيب دعاءهم . وجاء في الصحيحين قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إن من عباد الله مَن لَوْ أقسم على الله لأبرَّه " وهو في صحيح مسلم في حق أويْس القرني، ومنهم البرَّاء بن مالك إذا اشتدَّ الحرب بين المسلمين والكفار يقولون : يا برَّاء، أقسم على ربك، فقال : يا رب أقسمت عليك لما منحتنا أكتافهم وجعلتني أول شهيد، فأبرَّ الله قسمه وانهزم العدو واستشهد البرَّاء .
4 ـ التوسُّل بالأموات :
التوسُّل المذكور كان بالأحياء، أما الأموات ففريقان، فريق حيّ في قبره، وفريق غير حيّ.
ومن الأحياء في قبورهم الأنبياء، كما سيأتي بيانه، فالتوسُّل بهم يَجري عليه ما جرى على التوسُّل بهم قبل دفنهم .
فأجازه جماعة، بدليل ما رَوى البيهقي في : " دلائل النبوة " أن قحطًا أصاب الناس في زمان عمر، فجاء رجل قبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : يا رسول الله، استسقِ الله لأُمَّتك فإنهم قد هلكوا، فأتاه الرسول في المنام فقال : " ائت عمر فأقْرئه السلام وأخبره أنهم مُسْقَوْن، وقلْ له عليك الكيْس الكيْس " فأتى الرجل عمر فأخبره فبكى وقال : يا رب ما آلُو إلا ما عجزت عنه، يعني لا أُقَصِّر إلا فيما عجزت عنه .
ومنع جماعة التوسُّل بهم، منهم ابن تيمية الذي يقول : لو كان جائزًا ما احتاج عمر إلى التوسُّل بالعباس، وكان يمكنه أن يتوسَّل بالنبي بعد موته، لكن قد يُردُّ عليه بأن عمر فعله لبيان جواز الاستسقاء بغير النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ؛ لأنه ربما يتوهَّم بعض الناس أنه لا يجوز الاستسقاء بغير النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ولو استسقى عمر بالنبي لأُفهِم أنه لا يجوز الاستسقاء بغيره، كما أن من يُستسقى به يكون مع الناس، وهم كانوا مُجْتَمعين بعيدًا عن المسجد النبوي .
أما غير الأحياء في قبورهم فلا معنى لطلب الدعاء منهم . والتوسُّل بذواتهم وبجاههم حكْمُه حكم التوسُّل بذوات الأنبياء وجاههم، والله أعلم بتكريمه لهم فهو وحده الذي يحكم عليهم، وليس لنا من حُكْمٍ عليهم في حياتهم إلا بظاهر أعمالهم .
وإذا كان التوسُّل بحبهم واتباع سلوكهم الطيب فهو من باب توسُّل الإنسان لله بعمله، وهو أمر متفق على مشروعيته، كأصحاب الغار الذين انْطبقتِ الصخرة عليهم فدعَوا ربهم بصالح عملهم، ففرَّج عنهم .
هذا وقد سُئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن قولهم في الاستسقاء : لا بأس بالتوسُّل بالصالحين، وقول أحمد : يُتوسَّل بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خاصة، مع قولهم : إنه لا يُستغاث بمخلوق، فقال :
فالفرق ظاهر جدًّا، وليس الكلام ممَّا نحن فيه، فكونُ بعْضٍ يرخِّص بالتوسُّل بالصالحين وبعضٍ يخصُّه بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وأكثر العلماء يَنهى عن ذلك ويكرهه ـ فهذه المسألة من مسائل الفقه، وإن كان الصواب عندنا قول الجمهور من أنه مكروه، فلا ننكر على من فعله، ولا إنكار في مسائل الاجتهاد، ولكنْ إنكارنا على من دعا المخلوق أعظم مما يدعو الله تعالى، ويقصد القبر ويتضرَّع عند ضريح الشيخ . عبد القادر أو غيره ويَطلب فيه تفريج الكُرُبَات وإغاثة اللهْفان وإعطاء الرغبات، فأين هذا ممن يدعو الله مُخْلِصًا له الدين لا يدعو مع الله أحدًا، ولكن يقول في دعائه : أسألك بنبيك أو بالمرسلين أو بعبادك الصالحين، أو يقصد قبرًا معروفًا أو غيره يدعو عنده، لكن لا يدعو إلا الله مخلصًا له الدين، فأين هذا مما نحن فيه؟ .
جاء ذلك في فتاوى الشيخ محمد بن عبد الوهاب في مجموعة المؤلَّفات القسم الثالث ص 68 التي نشرتها جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب .
هذه هي فتوى ابن عبد الوهاب، وذلك كلام ابن تيمية في حَمْلته على التوسُّل، ولو رجعنا إلى المقدِّمة التي وضعناها لهذا الموضوع لأمكننا أن نلتقي جميعًا عند الحقائق المذكورة فيها إذا توافر حسن النية عند المُجيزين للتوسل والمانعين له، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل .
ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى الجزء الثاني من كتاب " بيان للناس من الأزهر الشريف ".
....................................................................................
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق