- بلادى توداى
- 12:07 ص
- تحليلات هامة
- لا توجد تعليقات
د. محمد السيد سليم
المحرقة أو "الهولوكوست" هو المصطلح الذي يطلقه الصهاينة على أعمال الإبادة التي يقولون إن ألمانيا النازية ارتكبتها ضد 6 ملايين من اليهود في الحرب العالمية الثانية. رغم أن المحرقة حدثت في أوروبا إلا أنها وظفت لكي يتحمل الفلسطينيون نتائجها من خلال استخدامها لتبرير إنشاء إسرائيل على الأرض الفلسطينية تأسيسا على الرغبة في تفادى تكرار المحرقة.
المحرقة أو "الهولوكوست" هو المصطلح الذي يطلقه الصهاينة على أعمال الإبادة التي يقولون إن ألمانيا النازية ارتكبتها ضد 6 ملايين من اليهود في الحرب العالمية الثانية. رغم أن المحرقة حدثت في أوروبا إلا أنها وظفت لكي يتحمل الفلسطينيون نتائجها من خلال استخدامها لتبرير إنشاء إسرائيل على الأرض الفلسطينية تأسيسا على الرغبة في تفادى تكرار المحرقة.
الجديد في موضوع المحرقة هو أن فرنسا بالاشتراك مع اليونسكو بدأت في تنظيم سلسلة من الندوات في العالمين العربي والإسلامي انطلاقا من القدس الشرقية المحتلة لمحاربة الأفكار التي تنكر حدوث المحرقة في إطار المشروع المسمى "علاء الدين".
ويتضمن المشروع نشر كتب باللغات العربية والفارسية والتركية على شبكة الإنترنت من خلال مكتبة إلكترونية تترجم العديد من الكتب التي تتحدث عن المحرقة والتي صدرت في أوروبا. ويوفر المشروع على موقعه الإلكتروني معلومات بالعربية والفارسية والتركية (أي لغات مسلمي الشرق الأوسط والوطن العربي) حول المحرقة والعلاقات اليهودية العربية وكتبا تتحدث عن المحرقة. ويشرف على مشروع "علاء الدين" عدد من الخبراء الفرنسيين يرأسهم الدبلوماسي "جاك أندرياني" وهو سفير فرنسي سابق في القاهرة، و"سيرج كلارسفيلد" وهو رئيس جمعية أبناء اليهود الفرنسيين الذين تم ترحيلهم إلى معتقلات التصفية النازية إبان الحرب العالمية الثانية، و"صموائيل سيرات" الرئيس السابق لحاخامات فرنسا كما يشارك في الإشراف على هذا المشروع أندرى أزولاى المستشار اليهودي لملك المغرب.
وقد تم إطلاق مشروع علاء الدين رسميا يوم 27 مارس 2009 في مقر منظمة اليونسكو بباريس وبحضور الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك، والمستشار الألماني السابق شرودر والرئيس السنغالي عبد الله واد. ويضم مجلس رعاية المشروع كلا من الأميرة هيا آل خليفة من البحرين، والأمير حسن طلال رئيس منتدى الفكر العربي في الأردن
وفى الفترة ما بين 27 يناير، 8 فبراير من هذا العام خطط القائمون على المشروع لعقد سلسلة من الندوات في عدد من المدن العربية والإسلامية من بينها القاهرة والرباط، والدار البيضاء والقدس المحتلة واستانبول، والناصرة وأربيل وتونس وبغداد. وتتضمن الندوات قراءة كتاب "هل هذا هو الإنسان؟" للكاتب اليهودي الإيطالي بريمو ليفى الذي كتبه في فترة اعتقاله بأحد المعتقلات النازية إبان الحرب العالمية الثانية. وتشرف على هذه الندوات المراكز الثقافية الفرنسية في تلك الدول.
تدويل المحرقة
كان يمكن أن تكون المحرقة حدثا تاريخيا يتناوله المؤرخون بالدرس والتحليل شأنه شأن كل الأحداث التاريخية التي وقعت إبان الحرب العالمية الثانية ومن ذلك سقوط 20 مليون سوفييتي في المعارك مع ألمانيا وحلفائها، أو ترحيل السوفييت للشعبين الشيشاني وتتار القرم إلى آسيا الوسطى وسيبيريا أثناء سير عمليات الحرب، ولكن الدعاية الصهيونية نجحت في اقتطاع هذا الحدث بمفرده ليصبح هو الحدث الأهم إن لم يكن الوحيد الذي يستحق الاهتمام
واستعملت الإرهاب لدفع الحكومات الغربية لتحويل المحرقة لتصبح قدس الأقداس الذي لا يمكن الاقتراب منه إلا من باب التسليم به وتعظيمه، ولتصير مناقشة الأرقام أو مدى تاريخية المحرقة بمثابة جريمة يستحق من يرتكبها السجن. ففي أوروبا تستطيع أن تنكر وجود الله، دون أن يمسسك أي ضرر، ولكنك لا تستطيع إنكار المحرقة وإلا كان السجن والنفي الاجتماعي مصيرك. وبالفعل فقد أصدرت 12 دولة أوروبية قوانين تجرم إنكار المحرقة.
ووظفت المحرقة سياسيا في أوروبا لمنع أي انتقاد لسياسات إسرائيل وابتزاز أوروبا ماديا من خلال التعويضات والدعم الاقتصادي والعسكري والسياسي المطلق على أساس أن هذا الدعم ضروري لمنع تكرار المحرقة حتى لو ارتكبت إسرائيل ذاتها محارق خاصة بها ضد العرب.
ويفسر لنا ذلك لماذا أعطت ألمانيا لإسرائيل ثلاث غواصات قادرة على حمل رؤوس نووية رغم أن ألمانيا لا يغمض لها جفن من البرنامج النووي الإيراني. وإمعانا في تقديس المحرقة بدأت عملية تدويلها حينما أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في نوفمبر سنة 2005 قرارا (بدون تصويت) يقضى بإدانة أي إنكار المحرقة، مع اعتبار يوم 27 يناير من كل عام "يوما لتذكر المحرقة"، ويدعو الدول إلى تعليم الأجيال الجديدة حول أهوال المحرقة، كما يدعو الأمم المتحدة ذاتها لبدء برامج تعليمية حولها.
وعلى الفور بدأت اليونسكو في صياغة برامج لتعريف العالم بالمحرقة، ولعبت فرنسا الدور الأكبر في تلك البرامج. وتمثلت ذروة تلك البرامج ما يعرف باسم مشروع "علاء الدين" الذي انطلق الأسبوع الماضي في القدس الشرقية المحتلة ومن المقرر أن يمتد إلى مدن عربية وإسلامية أخرى منها القاهرة.
التوظيف السياسي للمحرقة
كان المستهدف الأساسي من تلك البرامج العرب والمسلمين. وقد حدد آب رادكين المشرف على المشروع، الهدف منه بأن "معرفة تاريخ المحرقة التي وقعت لليهود أثناء الحرب العالمية الثانية في فترة النازية سوف يعين على فهم ما يجرى في الشرق الأوسط وقضية إيجاد وطن قومي لليهود يشعرون فيه بالأمن"، وأضاف رادكين "رغم هذا فالهدف ليس سياسيا، وهو يرمى فقط إلى التعريف بالمأساة الإنسانية التي وقعت أثناء الحرب العالمية الثانية"
وأضاف سيرج كلارسفيلد، الذي يرأس جمعية أبناء اليهود الفرنسيين الناجين من النازية "إن التعريف بالمحرقة سوف يدفع إلى مزيد من التسامح والقبول بالآخر"
الهدف إذن سياسي في المقام الأول وهو كما قال رادكين إقناع العرب بأهمية إيجاد وطن قومي لليهود يشعرون فيه بالأمن، وكما قال كلارسفيلد تحقيق "مزيد من التسامح وقبول الآخر" لدى العرب. الهدف أن يسلم العرب طواعية وعن طيب خاطر بل وبكل سرور وأريحية بحق إسرائيل في اغتصاب أرض فلسطين وبيهودية إسرائيل التي يحق لها وحدها أن تتمتع بالأمن.
وينهض هذا كله على افتراض أن العرب مسئولون عن المحرقة وبالتالي عليهم دفع ثمنها، وأن المشكلة الراهنة هي عند العرب لأنهم لا يقبلون احتلال إسرائيل لأراضيهم، وأن إسرائيل لم ترتكب محارق ضد العرب آخرها محرقة قطاع غزة في ديسمبر سنة 2009.
وفى تقديري أن هذا النشاط هو جزء من إستراتيجية أكبر لإعادة تشكيل العقل العربي في اتجاه التسليم الطوعي بحق إسرائيل في احتلال الأرض العربية بعد أن أدركت الحكومات الغربية أن إجبار العرب على التسليم بوجود إسرائيل وتوسعها تحت تأثير التفوق العسكري لن يكون مجديا في المدى البعيد حيث يمكن أن يتغير هذا التفوق في المستقبل. ومن ثم فإنه من الأفضل استثمار اللحظة التاريخية الراهنة لغرس فكرة قبول إسرائيل في العقل العربي. وهذا كله جزء من محاولة أكبر لدفع المسلمين إلى التخلي عن مرجعية الحقوق التاريخية العربية بل والنصوص الدينية الإسلامية واعتبارها مجرد نصوص تاريخية قابلة للتغير.
وفى هذا الإطار نفهم حرص أوروبا على دفع الدول العربية والإسلامية إلى إلغاء عقوبة الإعدام المنصوص عليها في القرآن الكريم تمهيدا لإلغاء كل قوانين المعاملات الموجودة في الإسلام كما فعلوا مع تركيا.
تدريس المحرقة للعرب
تطبيقا لهذا التوجه بدأت عملية الانطلاق إلى الجمهور المستهدف وهم العرب والمسلمون. وكانت سنة 2008 هي سنة الانطلاق. ففي يناير من تلك السنة أطلق متحف المحرقة في القدس المحتلة موقعا إلكترونيا للدول العربية "لتوعية الناس في العالم العربي بما تعرض له اليهود في الحرب العالمية الثانية".
وقد عقد المتحف في الشهر ذاته محاضرة عامة بعنوان "محرقة اليهود والعالم العربي" حضرها الوزير الإسرائيلي من أصل عربي "غالب مجادله" وقرأ رسالة في المحاضرة نيابة عن الأمير الحسن بن طلال. وفى السنة ذاتها سعت المفوضية العامة للاجئين الفلسطينيين إلى استكشاف مدى استعداد الجماعات المحلية في غزة لقبول تدريس المحرقة في المناهج التعليمية في مدارسها في القطاع.
وقد رفضت حكومة إسماعيل هنية المقترح ومعها كل الجماعات المحلية، وطلبت تلك الجماعات تدريس النكبة الفلسطينية وليس المحرقة. بيد أن المفوضية أعلنت أنها مازالت مصممة على تدريس المحرقة في غزة.
لعل أهم ما لفت نظري في الأمر هو أن المشروع الأوروبي يلقى دعما من بعض الدول والشخصيات العربية والإسلامية ومنهم الأمير الحسن بن طلال والأميرة هيا آل خليفة من البحرين والرئيس السنغالي الحالي عبد الله واد.
وعندما انطلق مشروع "علاء الدين" في اليونسكو في مارس سنة 2009 شاركت فيه مصر بكلمة ألقاها وزير الثقافة فاروق حسنى رحب فيها بالمشروع باعتباره مناسبة "تجعلنا نتذكر هذه المأساة الإنسانية للخروج منها بدرس يسهم في خلق واقع دولي جديد يتلافى تكرار هذه المأساة بأي من المجتمعات في هذا العالم لنتخذ من مكان حدوثها وزمانه عبرة نتدارس أبعادها". ربما كان خطاب وزير الثقافة جزءا من حملته لانتخابه مديرا عاما لليونسكو.
ولكن تبين له بجلاء عدم جدوى هذا التنازل إذ أصرت الحركة الصهيونية على هزيمته في معركة اليونسكو. والأهم من ذلك كله أنه لا ناقة لنا ولا جمل في المشروع الغربي لتعليمنا دروس في المحرقة، خاصة أننا عشنا ونعيش المحارق الصهيونية ضدنا ابتداء من دير ياسين، وكفر قاسم، وبحر البقر، وصابرا وشاتيلا، وجنين، وغزة. فكيف يمكن تخيل أن ندرس تاريخ اضطهاد من يقوم هو ذاته باضطهادنا؟ وعلى من يسعى لتعليمنا تاريخ المحرقة أن يدخل ضمن برامجه المحارق الصهيونية في عالمنا العربي
فإذا كنا نريد الاستفادة من درس المحرقة لتفادى حدوثها مستقبلا فعليك أن تدرس أيضا المحارق الراهنة لاستخلاص دروس مماثلة، أم أن الدروس لا تستفاد إلا من محرقة اليهود وحدها؟ وعلى الشخصيات العربية والإسلامية التي تورطت في هذا المشروع أن تعلم أنها بمساهمتها فيه إنما تقدم خدمات جليلة لمن يرتكب المحارق ضد العرب والمسلمين بل وتشجعهم على ذلك. فمن لا يحترم تاريخه لا يحترمه أحد. وأناشد الوزير فاروق حسنى ألا يسمح بعقد تلك الندوات في القاهرة إلا إذا تضمنت تاريخ المحارق الصهيونية أيضا. أما السكوت عن تلك المحارق فإنه يعنى أننا لا نحترم شهداءنا.
---------------------------------------------------------------------------------------------------------
*أستاذ العلاقات الدولية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية - جامعة القاهرة.
*مقال نشر بجريدة العربي المصرية تحت عنوان "آخر صيحات السلام: تدريس المحرقة اليهودية للعرب"، الأحد 7 فبراير 2010.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق