- بلادى توداى
- 4:31 ص
- تحليلات هامة
- لا توجد تعليقات
بقلم / فهمى هويدى
السجال الدائر في مصر بعد مقتلة الأقباط في نجع حمادي تبنى في البداية دعوة لمكافحة التعصب، وأطلق في النهاية حملة لمكافحة التدين.
1- الفكرة ليست جديدة تماما، فالخطاب الذي يخلط بين التعصب والتطرف من ناحية وبين التدين من ناحية ثانية ليس وليد هذه الأيام، وإنما تردد بشكل مقتضب وغير مباشر خلال العقدين الماضيين . على الأقل فالنظام التونسي تبناه بصورة غير مباشرة حين رفع شعار «تجفيف الينابيع»، الذي انطلق من الادعاء بأن التدين هو البيئة الحاضنة للتطرف والتربية المنتجة له. و ادعى أن التصدي للأصل كفيل بالخلاص من مختلف الشرور التي تفرعت عنه، هكذا في خلط ساذج أو خبيث بين التدين الصحيح الذي يرسي أساس النهوض بالمجتمع، وبين التدين المغلوط والمغشوش الذي يخاصم المجتمع ويعلن الحرب عليه.
هذه الفكرة عبر عنها ذات مرة تقرير مركز الدراسات الإستراتيجية الذي تصدره مؤسسة الأهرام، ثم ترددت بعد ذلك في كتابات عدة، أشرت إلى بعضها في الأسبوع الماضي، خصوصا من قال إن ظاهرة التدين في مصر تصاعدت وبلغت مرحلة الخطر، واعتبر ذلك مما يعزز ثقافة التخلف. ومثله من صوبوا سهامهم نحو نفس الهدف بدعوى الاستسلام لغيبوبة الماضي، والغرق في محيط الخرافة، والتصدي للظلامية الزاحفة... إلخ، إلى غير ذلك من الإشارات المبطنة والعبارات الغامضة. أما الجديد هذه المرة فهو الجرأة على طرح الفكرة، والتخلي عن الأقنعة التي تم التخفي وراءها، ومن ثم الجهر بالدعوة من خلال وسائل الإعلام المختلفة.
إن أخطر ما في هذه الدعوة أنها لا تستهدف فقط إقصاء الدين وعزله عن المجال العام، وإنما أنها تضرب في مقتل هوية المجتمع الذي قام تاريخيا على الاعتزاز بالإسلام والعروبة. وإزاء الذي أصاب العروبة من تشوهات وتصدعات، فإن توجيه السهام إلى الانتماء الإسلامي يصبح في حقيقة الأمر دعوة إلى الانتحار الحضاري والتخلي عن آخر حصون الهوية، إلى جانب كونه مفاصلة مع العالم الإسلامي وتفريطا في محيط الأمة الاستراتيجي.
إن دفاعنا الحقيقي هو عن القيمة والهوية، وليس عن أي ممارسات تصدر عن اتباع الدين، خصوصا إساءات المتعصبين أو حماقات الجاهلين أو أفعال المتطرفين والإرهابيين. ورغم أن تلك ملاحظة تبدو بديهية عند ذوى العقول الراجحة والحس السليم، إلا أنها غير ذلك تماما عند أولئك النفر من المتصيدين والمتحاملين. ذلك أنهم يعمدون إلى التقاط بعض تلك الممارسات ويتكئون عليها في دعاواهم. وبدلا من المطالبة بتصويبها ووقفها أو محاسبة المسئولين عنها فإنهم يحاكمون التدين ذاته، ويدعون إلى نبذه وحصاره وطمس مظاهره في المجتمع.
بقيت عندي ملاحظة أكررها في هذا التمهيد، وهي أن الذين يشنون تلك الحملة يمثلون قشرة معزولة ومحدودة ظهرت على سطح المجتمع، في مناخ سلبي دأب على أن يستخلص من الناس أسوأ ما فيهم. ولولا المواقع التي مكنوا منها والتطور الحاصل في وسائل الاتصال الذي أتاح لكل من هب ودب أن يصل إلى أسماع الناس، لظلوا مجرد أصوات نشاز لا حضور لها ولا صدى.
2- أشرت في الأسبوع الماضي إلى مقترحات إلغاء تدريس الدين في المدارس، ومنع الصلاة في أماكن العمل ومنع أي نشاط اجتماعي أو خيري تقوم به المؤسسات الدينية وحظر نشر فتاوى الفقهاء في وسائل الإعلام الرسمية، إلى غير ذلك من مقترحات محو الدين وحصاره. وأضيف هذه المرة نصين يصوران مدى الحساسية التي تولدت لدى البعض من مجرد ذكر الدين أو الالتزام ببعض مظاهره.
النص الأول نشره «الأهرام» في 26/1 تحت عنوان «كرة القدم والدين: خلطة الكابتن شحاتة». وهو بمثابة تعليق احتجاجي على تصريح نقل على لسان مدرب المنتخب المصري لكرة القدم قال فيه أنه يسعى دائما لأن يكون اللاعبون الذين يرتدون «فانلة» مصر على علاقة طيبة بربهم، وهو كلام يمكن أن ينطبق على المسلمين وغير المسلمين، لأن الطرفين يمكن أن يكونا على علاقة طيبة بربهم. وحين وقعت عليه لأول مرة فهمت أن المقصود به حرصه على تحلى اللاعبين بالاستقامة وتحليهم بالأخلاق الطيبة وبعدهم عن الرذائل. إلا أن الكاتب استفزه كلام الكابتن شحاتة، ولم تعجبه الدعوة التي اعتبرها خلطا خطرا بين الدين والرياضة. (كاتب آخر ذكر في تعليق له أن الفكرة أصابته بالفزع!). وبنى صاحبنا احتجاجه الغاضب على أساس توهمه أن الكابتن شحاتة قدم المعايير الدينية على المعايير الفنية الموضوعية، كأن الرجل شكل فريقه من مجموعة الدراويش، واعتبر ذلك «طامة كبرى» ودعوة إلى فتنة الشباب، لظنه أنه «يوجه إليهم رسالة خاطئة وخطيرة تفيد أن بإمكانهم الاستغناء بالطقوس الدينية الشكلية عن المقومات الحقيقية التي ينبغي أن يتحلوا بها في حياتهم العلمية». وبعدما قلبت المسألة على هذا النحو قال الكاتب إن الرجل «ربما لا يقدر حجم الأذى الذي يمكن أن يترتب على خلط الرياضة بالدين، والاستهانة بالمعايير الفنية والموضوعية في لحظة يتوقف فيها مستقبل أمتنا على استيفاء هذه المعايير في كل مجال».!
في اليوم التالي مباشرة (27/1) نشر الأهرام تعليقا مدهشا لأحد محرريه تحت عنوان الـبي. بي. سى ترتدي الحجاب، وجاء النص تعقيبا على ظهور إحدى المذيعات المسلمات بالحجاب على شاشة تليفزيون الـ«بى. بى. سي» الذي يبث باللغة العربية. وهو ما استفز الكاتب الذي عبر عن غضبه واحتجاجه في قوله «لما كانت بريطانيا دولة مدنية علمانية ينص دستورها على حرية العقيدة والكلمة. فإن التوجه الجديد لا يتفق مع العلمانية. والأهم من ذلك أن ارتداء الفتاة للحجاب ليس انحيازا للإسلام ولا احتراما للمسلمين بل هو انحياز لقوى التطرف والتشدد والإرهاب».(!!)
وفي موضع آخر قال إن«القناة ارتدت الحجاب لتشارك في الصراع بجانب القوى المتشددة والإرهابية». وختم التعليق بقوله إن النص القرآني لا يفرض الحجاب على المسلمات. مضيفا أن هذا الفهم عبر عنه بوضوح الشيخ محمد عبده في فتاواه المتعلقة بالحجاب. النصان من نماذج الكلام الغريب الذي يلوث الإدراك في مصر هذه الأيام، من حيث إنه مسكون بالنفور من حضور التدين أو مظاهره. والنص الأخير تفوق في بؤسه ليس فقط على مستوى الموقف وإنما على المستوى المعرفي أيضا. فصاحبنا لم يحتمل ظهور مذيعة واحدة بالحجاب واعتبر أن القناة كلها تحجبت، واتهمها بمساندة التشدد والإرهاب، هكذا مرة واحدة، وذكر أن الدستور البريطاني ينص على كذا وكذا، وهو لا يعلم أن بريطانيا ليس لها دستور مكتوب، وادعى أن الإمام محمد عبده له فتوى بخصوص الحجاب تدعم رأيه، وهذه كذبة أخرى، لأن كلام الإمام حجة عليه ينحاز إلى الرأي القائل بأن الوجه والكفين ليسوا عورة، بما يعني أن كلامه انصب على النقاب وليس الحجاب.
3- إذا استطعت أن «تبلع» الكلام السابق، وجاز لنا أن ننتقل إلى الكلام الأكثر جدية فسوف نجد أن حملة إقصاء الدين ركزت على «تنقية» هوية الدولة والمجتمع في مصر في آثاره من خلال أمرين أساسيين هما: فك الارتباط بين الدين والدولة وإقامة الدولة المدنية. وفى الوقت ذاته إلغاء المادة الثانية من الدستور التي تنص على أن الإسلام دين الدولة ومبادئ الشريعة هي المصدر الأساسي للتشريع. و لي عليها عدة ملاحظات ألخصها فيما يلي:
* إن هذا التفكيك لهوية الدولة المصرية يتزامن مع السجال الحاصل في فرنسا، وإن مضى في اتجاه معاكس له. فمصر يتراجع دورها عربيا، و يعبأ الرأي العام فيها ضد الانتماء العربي، وفي ذات الوقت يجري فك الارتباط بينهما وبين الإسلام، بحيث تنفك عراها واحدة تلو الأخرى. أما في فرنسا فالسعي حثيث لتثبيت أقدام الجمهورية والعلمانية والتقاليد الفرنسية، والتخلص من كل ما يظن أنه يعترض هذا الطريق، بمعنى أننا ننخلع من مقومات الانتماء في حين أنهم يعززونه ويثبتونه بمختلف السبل.
* إن المشكلة الحقيقية التي نواجهها ليست في تدخل الدين في شئون الدولة، ولكنها في هيمنة الدولة على شؤون الدين، واستخدام منابره وآلياته لخدمة سياساتها وتبريرها. ومن ثم فالمطلب الدقيق هو رفع يد الدولة عن الدين وليس العكس. وسجل الدولة مع المؤسسة الدينية معروف (فتوى تأييد إقامة الجدار العازل ليست بعيدة عن الأذهان) ثم إن تدخل الدولة في تقييد الأوقاف حرم المجتمع من باب واسع للتنمية أسهم في نهضة تركيا الحديثة.
* ثمة سؤالان كبيران تطرحهما هذه الدعوة هما: ما هي الخطوات النهضوية أو الإنجازات السياسية والمجتمعية التي شرعت فيها السلطة المصرية وعطلتها المادة الثانية من الدستور؟ ثم هل هذه المادة هي التي تحول دون إقامة المجتمع المدني، وهل من شأن حذفها أن يستعيد المجتمع حيويته؟
* لا توجد هناك صلة بين الأحداث الطائفية التي حدثت في نجع حمادي وبين هوية الدولة أو المادة الثانية للدستور. ومخطئ من يظن أن الاحتقان سيزول تلقائيا بعد التأكيد في الدستور على مدنية الدولة، وإلغاء المادة الثانية، والحاصل في نيجيريا الآن خير دليل على ذلك. إذ إن سقوط مئات القتلى من المسلمين في الصراعات الطائفية الدائرة هناك، و هي فتنة أكبر، ليس لها علاقة لا بالدولة المدنية ولا بأي مادة في الدستور.
* إن وجود المادة الثانية في الدستور يضمن الإسناد الشرعي الإسلامي لجميع الحقوق والمبادئ الواردة فيها، خصوصا ما تعلق منها بالمواطنة والمساواة. وهو المعنى الذي أكدته دراسة المستشار طارق البشري حول الموضوع، علما بأن النص على دين الدولة في الدستور كان موضع إجماع النخبة المصرية الممثلة لمختلف فئات المجتمع التي وضعت مشروع الدستور في عام 1922، في حين أن ثمة شكوكا قوية في شرعية ودوافع الذين يتبنون دوافع إلغاء المادة الآن.
* إن اعتبار إقصاء الهوية الدينية شرط لإقامة الدولة المدنية يعد خطأ معرفيا وسياسيا في نفس الوقت. فالتنمية في المجتمع الإسلامي على مدار تاريخه حمل عبأها الناس. وكانت الأوقاف هي الركيزة الأولى لها. واعتماد المرجعية الإسلامية لا يؤسس بالضرورة دولة دينية بالمفهوم السائد في التجربة الغربية، ونفوذ المرشد في إيران التي يقال إنها دولة دينية لا يقارن بنفوذ أي «بابا» في تجربة الكنيسة الغربية، ومعارضوه أقوى وأكثر ثباتا من أي معارضين آخرين في أي دولة «مدنية» في العالم العربي.
4- تثبيت الهوية الدينية لأي مجتمع لا يقدح في مدنيته، و هو ليس بدعة في زماننا. فملكة إنجلترا رئيسة للكنيسة، والمادة الأولى من دستور اليونان تنص على أن المذهب الرسمي للأمة اليونانية هو مذهب الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية، وفي الدنمرك والسويد يشترط في الملك أن يكون من أتباع المذهب الإنجيلي وملك إسبانيا يجب أن يكون من أتباع الكنيسة الكاثوليكية. والكاثوليكية في أمريكا اللاتينية والبوذية في الشرق الأقصى، ديانتان معتمدتان لدول عدة، لكن ما هو حلال للآخرين حرام في بلد كمصر عاش فيه الإسلام خمسة عشر قرنا، حتى أصبح يمثل جوهر ثقافته، وديانة 94٪ من سكانه.
إن التعايش الآمن بين مكونات المجتمع له شروطه، التي باستيفائها يسود السلم الأهلي ويتحقق الأمن الوطني، و تلك الدعوات غير المسئولة من جانب البعض ليست سوى ألغام يبثونها في طريق السلم والأمن المنشودين لمصر كلها، و ليس لفئة دون أخرى.
---------------------------------------------------
مقتبس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق