- بلادى توداى
- 2:02 ص
- أبحاث ودراسات ، تحليلات هامة
- لا توجد تعليقات
د.علي الصلابي- إسماعيل القريتلي
عهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه
تعزز لدينا في المقالات الثمانية السابقة أن مبدأ الشورى هو الطريق الوحيد الذي سلكه المسلمون لاختيار الحاكم وسلطات المجتمع العليا، ونواصل في هذه المقالة والتي تليها، المخصصتين للحديث عن الثقافة والمبادئ الدستورية في عهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ التأكيد على أن اختيار الحاكم في المجتمع المسلم لا يتم إلا بإرادة الأمة ورضاها، وهي ذات الإرادة والرضا التي تمت بهما بيعة النبي صلى الله عليه وسلم في بيعتي العقبة الأولى والثانية، حيث رضي به المسلمون قائداً، كما آمنوا به نبياً ورسولاً.
لقد أنارت هذه الحقيقة وعززت فهمنا للأسباب التي اعتبرت فيها هذه الحقبة التاريخية مثالاً للرشد في كل جوانبه وأبعاده، ومن بينها جانب الحكم وإدارة المجتمع والدولة.
أولاً : اختيار الأمة علياً رضي الله لمنصب الخلافة.
لقد تمت بيعة على رضي الله عنه بالخلافة بطريقة الاختيار، ولكن وسط ظروف صعبة ومخاطر مدلهمة ، كادت تهدد وجود الدولة ووحدة أقاليمها وشعوبها ، وكان المتربصون بهذه الدولة كثر، وتمت البيعة بُعيد فاجعة سجلها التاريخ ؛ تمثلت في استشهاد الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه ؛ على أيدي الخارجين الذين جاؤوا من أمصار مختلفة وقبائل متباينة (1) ، ولذا لم يكن أمام المسلمين متسعاً من الوقت ، مقارنةً بالحال في عهد الفاروق حيث تمكن رضي الله عنه قبل وفاته من ترتيب إجراءات شورية لاختيار من سيأتي بعده ، كما أن حادث اغتياله كان فردياً على عكس ما كان عليه الأمر في اغتيال ذو النورين رضي الله.
لقد حرص الصحابة وجمهور مسلمي المدينة حينها ؛على أن ينجز الأمر في أسرع وقت دون أي تأخير ، إدراكا منهم بضرورة اختيار قائد للدولة وسط تلك الظروف ، ولم يجدوا صعوبة في اختيار علي رضي الله عنه فقد كان الإجماع حاصلاً عليه مذ جعله الفاروق رضي الله عنه في قائمة الستة المرشحين ليُختار من بينهم الخليفة من بعده، ولأن القائمة خلصت في نهاية الأمر إلى شخصين هما عثمان وعلي رضي الله عنهما ، ثم اختير عثمان للقيادة ، فقد بقي لعلي تلك المكانة وذلك الإجماع (2) ، كما لم يدع أحد إلى ترشيح نفسه أو غيره بعد مقتل عثمان رضي الله عنه، ولذا لم يختلف المسلمون على تولي علي رضي الله عنه أمرهم، فبايعوه بالخلافة في وقت قصير، خوفًا من ازدياد الفتن وانتشارها.
روى أبو بكر الخلال عن محمد بن الحنفية أن علياً رضي الله عنه لما ذهب إلى دار عثمان ووجده قد قتل هاله الأمر، فرجع إلى داره فدخلها وأغلق بابه، فأتاه الناس فضربوا عليه الباب فدخلوا عليه فقالوا: إن عثمان قد قتل، ولابد للناس من خليفة ولا نعلم أحدًا أحق بها منك، فقال لهم على لا تريدوني فإني لكم وزيرًا خير مني لكم أميراً، فقالوا: لا والله لا نعلم أحدًا أحق بها منك، قال فإن أبيتم علىَّ فإن بيعتي لا تكون سراً، ولكن أخرج إلى المسجد، فبايعه الناس(3).
وفي رواية عن سالم ابن أبي الجعد عن محمد بن الحنفية أنه قال: فأتاه أصحاب رسول الله فقالوا: إن هذا الرجل قد قتل ولابد للناس من إمام ولا نجد أحدًا أحق بها منك ، فقال علي: لا تفعلوا فإني لكم وزيراً خير مني أميراً، فقالوا: لا والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك، قال: ففي المسجد فإنه ينبغي لبيعتي ألا تكون خفياً ولا تكون إلا عن رضا المسلمين، قال: فقال سالم بن أبي الجعد: فقال عبد الله بن عباس: فلقد كرهت أن يأتي المسجد كراهية أن يُشغب عليه، وأبى هو إلا المسجد، فلما دخل المسجد جاء المهاجرون والأنصار فبايعوا وبايع الناس(4).
وقد كان ممن حضر بيعة علي رضي الله عنه وسار فيها كل من طلحة والزبير ، فقد روي أن المهاجرين والأنصار اجتمعوا وفيهم طلحة والزبير فأتوا علياً، فقالوا: يا أبا الحسن هلم نبايعك، فقال: لا حاجة لي في أمركم أنا معكم، فمن اخترتم فقد رضيت به فاختاروا، فقالوا والله ما نختار غيرك(5)، وذكر ابن جرير في تاريخه(6)، العديد من الروايات الدالة على مبايعة الصحابة رضي الله عنهم لعلي رضي الله عنه واتفاقهم على بيعته بمن فيهم طلحة والزبير.
مركز الأمة ومكانتها في الاختيار.
دل اختيار المسلمين لعلي رضي الله عنه وسط تلك الأحداث الكبيرة العاصفة، وفي وقت قياسي، وبإجماع قل نظيره، على أن للأمة دورها المحوري في المفهوم السياسي الإسلامي، فإذا علمنا أن كثيرا من الصحابة لم يكونوا متواجدين في المدينة إبان المبايعة، لأدركنا الروح التي بثها الإسلام بين المؤمنين به، روحٌ لم يعهدها العرب من قبل، ولم تأت من فراغ بل بتدريب وتهيئة متواصلة منذ أعلن محمد صلى الله عليه وسلم دعوته إلى الإسلام، فقد أدرك المسلمون مسؤوليتهم الجماعية تجاه الدولة، الأمر الذي يلزمنا اليوم بأن نعيد بناء وتأسيس دور المجتمع المحوري، وعدم التعامل مع جموعه وفئاته على أنها رعاع أو قطعان، بل باعتباره أمة أراد الله لها أن تتولى مسؤوليات كبيرة كالدعوة إليه وإعمار الأرض وفق نهجه، وبناء مجتمع يستسلم له ويقبل شرعته فلا يظلم فيه ضعيف ولا يحابى بينهم غني.
ثانيا: شروط على رضي الله عنه في بيعته
نظراً للظروف والملابسات الخاصة التي صاحبت اختيار علي رضي الله عنه، فقد اشترط في بيعته أمورا منها:
1- أن تكون البيعة في ملأٍ وليس في خفية ، وفي المسجد.
2- أن يكون توليه عن رضا المسلمين.
3- أن يدير الدولة كما يراه ويعلمه.. فوافقوه.(7)
بهذه الشروط الموجزة أوجد علي رضي الله عنه إجماعاً على اختياره، وقد كان بحاجة إلى هذا الإجماع للاستعانة به في مواجهة المشاكل التي كانت تعصف بالأمة ، كما أكدت هذه الشروط على التزامه بما قام به سلفه من الراشدين، بأن تكون رئاسته للمسلمين اختياراً لا تعييناً، بل وأن يتم هذا الاختيار بطريقة شفافة في المسجد، وعلنية تحت ضوء الشمس .. حيث كان يمثل في تلك الحقبة مجمع شورى المسلمين وقاعدة إعلاناتهم ومصدر قراراتهم.
استمرار دور المجتمع تجاه السلطة
نود هنا أن نشير إلى أن علياً رضي الله عنه، أكد على دور الأمة في ظل الظروف الصعبة والحقائق المفجعة ، التي أدت إلى مقتل الخليفة ذو النورين رضي الله عنه ، فلم تبرر له تلك الظروف محاولة إقصاء الأمة عن ممارسة حقها وواجبها ودورها الذي ألزمها الله تعالى به ، من كونها هي مصدر الشرعية ، والمسؤولة عن خلافة الأرض وعمارتها ، وبالتالي لن يسقط هذا الحق وذلك الدور تحت أي ظرف كان ، وهذا على عكس ما تقرره الدساتير المعاصرة من اعتبار ما يسمى حالة الطوارئ سبباً في تعطيل كافة أو بعض المؤسسات الدستورية ، خصوصا تلك التي تعبر عن رأي الأمة مباشرةً أو عبر نوابها ، وتمنح الحاكم سلطاناً لا نهاية له ، مما يعرضها للخطر باحتكامها لشخص أو مجموعة واحدة!
ثالثا: الالتزام الدستوري في أول خطاب يوجهه علي للأمة
الأمة تختار حكامها
نعود لنؤكد على ما استنتجناه في المقالات السابقة ، حيث تكرر من كل الخلفاء الراشدين السابقين ؛ أن يبدأ القائد الجديد عهده بخطاب دستوري يلقيه في الأمة، يعلن فيه التزامه بجملة المبادئ والقيم ، ويضمنه السياسات والرؤى وأهم الشروط ، وبهذا الإقرار المتواصل والالتزام الدائم يتأكد بأن شرط قبول الحاكم ومنحه الثقة يتمثل في أن يعلن من اختير للقيادة تمسكه بتلك المبادئ باعتبارها قواعد لا يصح الحكم بدونها ، ولا تمنح الثقة إلا وفق أصولها ، ولا يجوز بحالٍ الحيدة عنها
لقد بدأ علي رضي الله عنه خطابه لعموم المسلمين ببيان كيف تم ترشيحه لهذا المنصب ، ثم أتبع ذلك بذكر أهم المبادئ التي سيلتزم بها في إدارة شؤون المجتمع والدولة فقال:
1- إني كنت كارهاً لأمركم ، فأبيتم إلا أن أكون عليكم ، ألا وإنه ليس لي أمر دونكم.
2- ألا إن مفاتيح مالكم معي ، ألا وأنه ليس لي أن آخذ منه درهما دونكم(8).
3- يا أيها الناس : إن هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلا من أمرتم ، وقد افترقنا بالأمس على أمر ، فإن شئتم قعدت لكم ، وإلا فلا أجد على أحد ، ثم رفع صوته قائلا ً: رضيتم ؟ قالوا : نعم ، قال : اللهم أشهد عليهم ، وأقبل الناس يبايعونه(9) , وبعد أداء البيعة قال : أيها الناس:
4- إنكم بايعتموني على ما بايعتم عليه أصحابي ، فإذا بايعتموني فلا خيار لكم علىَّ ، وعلى الإمام الاستقامة وعلى الرعية التسليم(19).
نبذ الاستبداد
أكد علي رضي الله عنه في أول كلامه بأن خلافته جاءت استناداً لاختيار ورضا الأمة بطريقة معلنة ، ولم يتول استدلالاً بنصٍ أو استنادا إلى وصية، وبهذا يتأكد لنا مجددا بأن هذا الأمر لم يعط الحق فيه لغير الأمة ، التي رأيناها كيف أتقنت الاختيار في ظروف مختلفة؛ ابتداء من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، ووصولاً إلى اختيار علي نفسه، الذي جاء بعد فتنة كبيرة كادت تعصف بالمسلمين.
إضافة إلى الالتزام بمقررات قاعدة حق الأمة في الاختيار، أكد علي رضي الله عنه بأن تستمر الشورى بينه وبين المجتمع فقال (ألا وإنه ليس لي أمر دونكم)، الأمر الذي يلزمنا اليوم بالتأكيد عن نبذ الاستبداد ، وبناء مؤسسات السلطة بالاستناد على حق المجتمع في الاختيار والمشاركة في صنع قرارات الدولة عبر تطوير آليات الشورى ، وأن يصبح استمرار الحاكم وإدارة السلطة في أداء الواجب ، منوط بالتزام عدم التفرد بالرأي والقرار، وإلا عاد للمجتمع حقه وصلاحياته فيبت مجددا في أمر تقرير صلاحية ومصير السلطة الرافضة للوفاء بالتزاماتها التعاقدية معه.
وجوب حماية موارد الدولة
إلى جانب حماية حدود الدولة ، والحفاظ على وحدة ونسيج المجتمع ، تأتي مسألة تنمية موارد الدولة وحفظ مقدراتها ، ومن ثم توزيعها على المجتمع واحتياجاته ، وخطط تنميته ضرورة ملحة تلتزم بها السلطة ، ولن يقبل بأي حال تفريطها فيها ، أو إيثار شخوص السلطة على أفراد المجتمع بموارد الدولة ، وهذا فهم مشترك عند الصحابة والمسلمين في تلك الحقبة، وبات من المعتاد أن يؤكد عليه كل من تختاره الأمة لقيادتها، وهنا يقول علي رضي الله عنه (ألا إن مفاتيح مالكم معي ، ألا وأنه ليس لي أن آخذ منه درهما دونكم.)
مراقبة الأمة للحاكم
وهنا ينبغي التأكيد على أن دور الأمة وحقها لا يقف عند الاختيار والرضا بنتائج ذلك الاختيار ، بل يتجاوزه إلى واجب دائم متجدد على مدار الأيام، وبحجم هموم النهوض واستشرافات الترقي تجاه وكيلها في إدارة السلطة في دولتها، يتمثل في الرقابة عليها ، والتدقيق في حركتها ونهجها، بحيث تحفظ سلطة الدولة حقها في إدارة شؤون المجتمع ورعاية مصالحه ، ما دامت منضبطة بإنفاذ الواجبات التي أنيطت بها .
لقد عبر علي رضي الله عنه عن علاقة الأمة بالحاكم في قوله (على الإمام الاستقامة، وعلى الرعية التسليم)، وحري بنا اليوم أن لا نتنازل أو نفرط في هذا الواجب ، بل ينبغي أن ندفع به نحو تطوير عمليات المجتمع في آليات ومؤسسات وهياكل تنصب تجاه مراقبة أداء السلطة ، سواء عبر مؤسسات المجتمع المدني كالصحافة والجمعيات المتخصصة ، أو من خلال مجالس الشورى والخبراء والنواب ، كما يعزز دور المسجد والمؤسسات التعليمية والحقوقية والنقابية سواء بسواء للحفاظ على مكتسبات الأمة ، والارتقاء بأداء الإدارة السياسية ، وصون مقدرات الأجيال وممتلكات الأمة.
كل ذلك وغيره يجب أن يكون مقرراً في نصوص دستورية راسخة، ومحمياً بقوة قانونية نافذة ، ومرعياً برقابة الأمة الواعية ، ومشاعاً في أشكال وقوالب ثقافية وعلمية راسخة، تمثل ثقافة المجتمع، وأمانة الأمة، ورأس مال النهوض وأساسه.
ـــــــــــــــــــــــــــ
(1) الطبقات لابن سعد (3/31)
(2) دراسات في عهد النبوة والخلافة الراشدة (282)
(3) كتاب السنة لأبي بكر الخلال (425)
(4) الخلال في السنة (416) رجال الإسناد ثقات
(5) تاريخ الطبري (5/449) إسناد الرواية حسن لغيره ، حملة رسالة الإسلام الأولون ، محب الدين الخطيب (57)
(6) انظر تاريخ الطبري (5/448- 450) ، وقد قام بجمع هذه الروايات وحققها الدكتور محمد أمحزون ، تحقيق مواقف الصحابة (2/59- 75)
(7) تاريخ الطبري (5/448) دراسات في عهد النبوة (281)
(8) تاريخ الطبري (5/449).
(9) تاريخ الطبري (5/449).
(10) دراسات في عهد النبوة والخلافة الراشدة، ص(282).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق