- بلادى توداى
- 3:16 ص
- أبحاث ودراسات ، تحليلات هامة
- لا توجد تعليقات
بقلم د./ الصلابى
عهد علي بن أبي طالب
رابعاً : معالم دستورية في عهد علي رضي الله عنه
لقد وضح في المقال السابق التزام علي رضي الله عنه بقيم الإسلام في الحكم ، وهي متضمنة لنبذ الاستبداد والتزام الشورى ، ومراعاة حق المجتمع في رقابة السلطة .. وفي هذا المقال نستعرض بعض المعالم الدستورية الأخرى التي أدار بها علي رضي الله عنه الدولة ، ثم نستعرض طرفاً من تطبيقاته العملية لتلك القيم ..
المرجعية العليا للدولة ..
لم يفتأ المسلمون منذ أن تأسست دولتهم الأولى في المدينة عن التأكيد على أن المرجعية العليا لتلك الدولة هي الإسلام متمثلا في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وقد وردت نصوص في صحيفة المدينة تنص وتؤكد على هذه المرجعية، وكنا قد تناولناها في المقالين الأول والثاني من هذه السلسلة ، ونعود هنا لنستعرض ما استقر من أمر هذه المرجعية في عهد علي رضي الله عنه ؛ أي بعد أكثر من 30 عاماً هي الفترة الفاصلة بين تدوين صحيفة المدينة وتولي علي رضي الله عنه مهام الرئاسة ، وقد اتسعت مساحة الدولة فيها آلاف الأضعاف على ما كنت عليه لحظة كتابة الصحيفة ، كما تنوع سكان الدولة ديناً وعرقاً وثقافةً ولغةً
، وأضحت من كبريات الدول في ذلك العصر .
، وأضحت من كبريات الدول في ذلك العصر .
1- القرآن الكريم ، هو المصدر الأول للأحكام ، ومما قاله علي رضي الله بهذا الخصوص : " اعرضوا ما أشكل عليكم على القرآن ، فما عرفه القرآن فالزموه ، وما أنكره فردوه( ) ، وهذا مصداق لما جاء في القرآن الكريم ( إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً ) النساء 105
2- السنة المطهرة ، هي المصدر الثاني للأحكام ، وقد جاء عن علي رضي الله عنه : " اهتدوا بهدى نبيكم صلى الله عليه وسلم ، فإنه أفضل الهدى واستنوا بسنته، فإنها أفضل السنن( ) ، وتشكل مع القرآن الكريم مرجعية وروح الدستور الإسلامي فيستمد منهما أصوله ، ومن خلال السنة يمكن معرفة الصيغ التنفيذية والتطبيقية لأحكام القرآن الكريم( ) ..
وباعتبار هذين الأصلين مرجعية عليا للدولة ، يصبح من الواجب اعتبارهما الإطار الذي يشكل التوجيهات والتوجهات الكلية للدولة والمجتمع ، ومن المهم معرفة مقاصد هذين المصدرين لأن الاحتكام عبر السنوات يتم بمعرفة مقاصدهما ، وهو علم يملك أهل التخصص فيه بحوثاً ودراسات ، انتهوا فيها إلى الكثير من القواعد التي تضبط عملية الرجوع إليهما لاستلهام الرأي والحكم في القضايا المستجدة ..
مبدأ الشورى :
لقد انجلى لنا أن اختيار علي رضي الله عنه بالرغم من الأزمة التي ألمت بالأمة ، تم بشورى ورضا من الأمة الحاضرة في المدينة آنذاك ، ولم يتم على أي أساس عشائري أو أسري ، أو بعهد ووصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
إن من قواعد الدولة في الإسلام حتمية تشاور قادة الدولة وحكامها مع المسلمين والنزول على رضاهم ورأيهم وإمضاء الحكم بالشورى( ) ، ومما روي عن على رضي الله عنه في ذلك قوله : " الاستشارة عين الهداية وقد خاطر من استغنى برأيه " ( ) , وقوله : " نعم المؤازرة المشاورة وبئس الاستعداد الاستبداد " ( ) ، ومما أوصى به مالك بن الحارث الأشتر حين بعثه إلى مصر في الشورى قوله : " لا تدخلن في مشورتك بخيلاً فيعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر ، ولا جبانًا فيضعفك عن الأمور ، ولا حريصاً فيزين لك الشره بالجور ، فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله " ( ) ..
وقد كان رضي الله عنه يحرص على الالتزام بالشورى في تصرفاته وأعماله وقراراته ، ومن تطبيقاته الشورية أنه حينما وصل إليه كتاب من القائد معقل بن قيس الرياحي ، المكلف بمحاربة الخريت بن راشد الخارجي ؛ جمع أصحابه ، وقرأ عليهم كتابه واستشارهم وطلب منهم الرأي ، حيث اجتمع رأي عامتهم على قول واحد مفاده ، أن تكتب إلى معقل بن قيس فيتبع أثر الخريت فلا يزال في طلبه حتى يقتله أو ينفيه ، فإنا لا نأمن أن يفسد عليك الناس( ) ..
وبالمقابل فقد كان ينهى عن الاستبداد الذي سماه علي رضي الله عنه " الأثرة بالأعمال " ، وفي ذلك قوله للأشتر النخعي عندما ولاه مصر : " انظر في أمور عمالك الذين تستعملهم ، فليكن استعمالك إياهم اختياراً ولا يكن محاباة ولا إيثاراً ، فإن الأثرة بالأعمال والمحاباة بها جماع من شعب الجور والخيانة لله ، وإدخال الضرر على الناس ، وليست تصلح أمور الناس ، ولا أمور الولاة إلا بإصلاح من يستعينون به على أمورهم ، ويختارونه لكفاية ما غاب عنهم ، فاصطف لولاية أعمالك أهل الورع والعفة والعلم والسياسة ، والصق بذوى التجربة والعقول والحياء من أهل البيوتات الصالحة وأهل الدين والورع ، فإنهم أكرم أخلاقاً وأشد لأنفسهم صوناً وإصلاحاً وأقل في المطامع إسرافاً ، وأحسن في عواقب الأمور نظراً من غيرهم ، فليكونوا عمالك وأعوانك ( ) ..
والنتيجة التي وصلنا إليها كلمنا أمعنا النظر في مسالك العهد الراشدي ؛ يتأكد لنا أن الشورى لم تكن مسألة خيار للحاكم ، يلجأ إليه متى أراد ، ويتخلى عنه حينما يشاء ، بل هو التزام دائم لا تتم شرعية الحكم واستحقاقاته إلا بالتزامه ، وكما لا يخفى فإنه قد كان للعديد من الفقهاء آراء تتجه إلى أن الشورى ليست منهجا ملزما للحاكم ، وبغض النظر عن تفاصيل النقاش حول هذا الأمر فإننا لا نرى صحة حكم مستبد ، ولا شرعية حكومة ، إلا باعترافها والتزامها بإرجاع الخيار دائما للأمة والمجتمع ..
إنه من الضرورة بمكان أن نشير هنا إلى أن الالتزام بالشورى والإلزام، لا يتم بمجرد النص عليها في أية وثيقة دستورية ؛ سواء بالطرق المتعارف عليها اليوم من خلال جمعية تأسيسية ، أو عن طريق منحها ممن يملك السلطة الواقعية .. إن الالتزام يأتي عبر عمليات تغيير واسعة في بنية المجتمع الثقافية ، ومنظومته الأخلاقية ، وتطوير لوسائل التنشئة الاجتماعية من تعليم وإعلام ومنابر وفنون ، ويصحب كل ذلك توافق بين مكونات المجتمع على الالتزام بالشورى وتطوير آليات تطبيقها ..
حق الأمة في الرقابة على الحكام :
لقد كان أول ما قاله علي رضي الله عنه إثر اختياره للخلافة : " إن هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلا من أمرتم ، إلا أنه ليس لي أمر دونكم . " ( ) ، وبهذا أكد أن للأمة الحق في مراقبة مؤسسة الحكم والإدارة ، وأنها تمتلك سلطة التقويم ، وهو ما يتطابق مع قوله تعالى : ( وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) آل عمران 104 ، وهو نفس المنهج الذي التزمه الصديق رضي الله عنه بعد اختياره إذ قال : " فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني " ( ) , وأكده الفاروق بقوله : " أحب الناس إلىَّ من رفع إلىَّ عيوبي " ( ) , وقال : " إني أخاف أن أخطئ فلا يردنى أحد منكم تهيبًا مني " ( ) , وبنفس الوضوح نادى ذو النورين على الملأ من المجتمع فقال : " إن وجدتم في كتاب الله أن تضعوا رجلي في القيد فضعوا رجلي في القيد " ( ) ..
إن شواهد وممارسات العهد الراشدي ، تعتبر الالتزام بالشورى من الحاكم ورقابة الحكم من المجتمع ، من مسائل الإجماع التي أتفق عليها من قبل ذلك الجيل( ) , ويمكننا أن نعتبر هذا الفهم من ذلك الجيل هو الموافق لما جاء به القرآن الكريم في منزلة الشورى ، وما دلت عليه النصوص النبوية في أمر إدارة الحكم ، ومراقبة الحاكم ، ونقد السلطة .. ويبقى المطلوب دائما من المسلمين أن يبحثوا في تطوير وتنمية إجراءات وآليات تطبيق الشورى ووسائل رقابة الحكام ، وربما نحن اليوم بأشد الحاجة إلى بيان أننا لسنا في حاجة إلى الكثير من الجدل أو المسؤولية حول أي ممارسة تاريخية خاطئة ، وأن الذي ينبغي التأكيد والتركيز عليه هو ضرورة تأسيس الوسائل والإجراءات ؛ بناء على ما تقرر في عهد الراشدين فيما يتعلق بالمبادئ والكليات التي ذكرناها آنفا.
العدل والمساواة :
لقد تبين لنا كيف أن أهم مسؤوليات الحكم في الإسلام هي إقامة القواعد التي تؤسس للعدل والمساواة في المجتمع ، وقد سعى على رضي الله عنه ليؤسس إدارة الدولة على تحقيق العدل الشامل ، والمساواة التامة ، وأن يجعله من غايات وأهداف الحكم ( ) .. ولا شك أن العدل هو الدعامة الرئيسية للنهوض بالمجتمع ، وبناء الحكم الرشيد ، ولا وجود للإسلام في مجتمع يسوده الظلم ، ولا يعرف العدل ..
ومما روي عن علي رضي الله عنه ف ما قاله القاضي شريح : " افتقد علي رضي الله عنه درعاً له ، ثم أصاب الدرع في يد يهودي بالكوفة يبيعها في السوق ، فقال له : هذا الدرع درعي ، لم أبع ولم أهب ، فقال اليهودي : درعي وفي يدي ، فقال على : نسير إلى القاضي ، فتقدما إلى شريح ، فقال شريح: قل يا أمير المؤمنين ، فقال : نعم أقول : إن هذه الدرع التي في يد اليهودي درعي ، لم أبع ولم أهب ، فقال شريح : يا أمير المؤمنين بينة ؟! ، قال : نعم قنبر ( ) والحسن والحسين يشهدون أن الدرع درعي ، قال : شهادة الابن لا تجوز للأب ، فقال : رجل من أهل الجنة لا تجوز شهادته ؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة " ( ) ، فقال اليهودي : أمير المؤمنين قدمني إلى قاضيه ، وقاضيه قضى عليه ؟ أشهد أن هذا الحق ، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وأن الدرع درعك ، كنت راكباً على جملك الأورق وأنت متوجه إلى صفين فوقعت منك ليلاً ، فأخذتها قال : أما إذا قلتها فهي لك " ( ) ..
ومن مواقف عدله رضي الله عنه : ما رواه عاصم بن كليب عن أبيه قال : قدم على علىَّ ابن أبي طالب مال من أصبهان ( ) , فقسمه سبعة أسباع ، فوجد فيه رغيفاً ، فقسمه سبع كسر ، وجعل على كل جزء كسرة ، ثم أقرع بينهم ، أيهم يعطي أول ( ) ..
وأما مبدأ المساواة الذي يعد أحد المبادئ العامة التي أقرها الإسلام ، بقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) الحجرات 13؛ فإنه عند أمير المؤمنين علي رضي الله عنه منهجاً في الحكم وسيرة بين الرعية ، وقد كان حرصه على تقسيم المال على الناس فور وروده إليه بالتساوي بعد أن يحتجز منه ما ينبغي أن يأخذ للمرافق العامة ، ولم يكن يستبيح لنفسه أن يأخذ من هذا المال إلا مثلما يعطي غيره من الناس ، كما أنه كان يعطي معارضيه من الخوارج من العطاء مثلما يعطي غيرهم ، وهذا قبل سفكهم للدماء ، واعتدائهم على الناس ( ) ، وكان رضي الله عنه يساوى في العطايا بين الناس لا يفضل شريفًا على غيره من المواطنين ، ولا عربياً على أعجمي ، فقد دفع مرةً طعاماً ودراهم بالتساوي إلى امرأتين إحداهما عربية ، والثانية أعجمية ، فاحتجت الأولى قائلة : إني والله امرأة من العرب ، وهذه من العجم ، فأجابها على : إني والله لا أجد لبني إسماعيل في هذا الفيء فضلاً على بني إسحاق .. وكذلك لما طلب إليه تفضيل أشراف العرب وقريش على الموالي والعجم ، قال : لا والله ، لو كان المال لي لواسيت بينهم ، فكيف وإنما هي أموالهم ؟ ( ) ، وعن يحيى بن سلمة قال : استعمل علي رضي الله عنه عمرو بن سلمة على أصبهان فقدم ومعه ماله وزقاق فيها عسل وسمن ، فأرسلت أم كلثوم بنت علي رضي الله عنه إلى عمرو تطلب منه سمنا وعسلاً ، فأرسل إليها ظرف عسل وظرف سمن ، فلما كان الغد خرج علي وأحضر المال والعسل والسمن ليقسم ، فعد الزقاق فنقصت زقين ، فسأله عنهما ، فكتمه وقال : نحن نحضرهما ، فعزم عليه إلا ذكرها له ، فأخبره ، فأرسل إلى أم كلثوم فأخذ الزقين منها فرآهما قد نقصا ، فأمر التجار بتقويم ما نقص منهما ، فكان ثلاثة دراهم ، فأرسل إليها فأخذها منها ثم قسم الجميع ( )
إنه لمن الغريب جداً أنك تجد في أيامنا هذه محاولات متواصلة ؛ تهدف إلى طمس هذا التطبيق للعدل والمساواة والحرية ، ومحاولة البحث عن أمثلة لهما لدى الغرب باعتباره الغالب وصاحب القوة المسيطرة على العالم ، وترى أن منا من يندهش عند سماع أمثلة للعدل من الغرب ، وفي ذات الوقت يرفض أي حديث نقتبسه من تاريخنا ، ويحاول جاهدا أن يعتب علينا الاقتباس والدعوة للتأسيس على تلك التجربة الإنسانية الرائدة ..
حماية الحريات :
مبدأ الحرية من المبادئ الأساسية التي قام عليها بنيان الحكم في عهد الخلفاء الراشدين ، ويقضي هذا المبدأ بتأمين وكفالة الحريات العامة للناس كافة، فقد كانت دعوة الإسلام لحرية الناس .. جميع الناس ، دعوة واسعة عريضة، والإسلام عرف الحرية بكل معانيها ومدلولاتها ومفاهيمها ، فتارةً تكون فعلاً إيجابياً كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتارةً فعلاً سلبياً كالامتناع عن إكراه أحد في الدخول في الدين الحنيف ، وفي أحيان كثيرة يختلط معناها بمعنى الرحمة ، والعدل الشورى والمساواة ، لأن كل مبدأ من هذه المبادئ التي نادى بها الإسلام لا يستقيم أمره ولا يمكن تحقيقه إلا بوجود الحرية ، وقد أسهم مبدأ الحرية مساهمة فعالة إبان حكم الخلفاء الراشدين خاصة بانتشار الإسلام ، وتسهيل فتوحات المسلمين واتساع رقعة دولتهم ، لأن الإسلام كرم الإنسان وكفل حرياته على أوسع نطاق ، ولأن النظم السياسية الأخرى السائدة آنذاك في دولة الروم والفرس كانت أنظمة استبدادية وتسلطية وفئوية ؛ قاست بسببها الرعايا ، وبصورة خاصة المناوئون السياسيون والأقليات الدينية ، أشد درجات الكبت والاضطهاد والظلم ، وأما في الإسلام في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين ، فقد كانت الحريات العامة والخاصة معلومة ومصونة تماماً ( ) , وقد كان لعلي رضي الله عنه أقوال تدافع عن الحريات ومواقف تدعم هذا المبدأ في المجتمع المسلم ، فمن أقواله :
1- " بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد " ( )
2- " ليس من العدل القضاء على الثقة بالظن " ( )
وأقواله هذه ، إنما تدل دلالة واضحة على أنه ليس من الجائز أخذ الناس بالشبهات والحكم عليهم لمجرد الظنون والشكوك ، بل ينبغي أن يكون ذلك بـ ( الثقة ) ، أي باليقين المستند إلى أدلة دامغة وأكيدة لا تقبل الجدل حولها ( ) ، وبذلك يكون المبدأ القائل بأن المتهم يبقى بريئاً حتى إثبات العكس قد عرفه وعاشه الإسلام منذ أمد بعيد ( ) ..
لقد تجلت مظاهر حماية الحريات باعتبارها ركن ركين في مفهوم الحكم بالإسلام ، ما كان من علي رضي الله عنه باحترام الحقوق والحريات ، فعلى الرغم من ملابسات الظروف الاستثنائية التي واكبت فترة حكمه ؛ فلم يتعامل مع تلك الظروف باعتبارها المبرر إلى تقييد حرية الأفراد في ذهابهم وإيابهم وإقامتهم ، أو ما يسمى في العصر الحديث بقانون الطوارئ ، فلم يقيد علي رضي الله عنه حرية أحد ، سواء كان من أتباعه أم من خصومه ، ولم يكره أحداً على الإقامة والبقاء في ظل سلطانه ، أو على الخروج منه ، ولا حتى على المسير معه لمقاتلة أعدائه ، ولم يصد أحداً من الناس عن اللحاق بمعاوية ( ) , كما أنه لم يقيد حرية أصحاب عبد الله بن مسعود وعبيدة السلماني والربيع بن خيثم ، ولم يكرههم على المسير معه لمقاتلة أهل الشام عندما رفضوا ذلك ، بل سمح لهم بالذهاب لبعض الثغور نزولاً على رغبتهم ( ) , وعندما ثار عليه الخوراج بعد معركة صفين بسبب القول بالتحكيم ، فإنه لم يكره أحداً منهم على البقاء في ظل سلطانه أو الخروج منه ، بل بالعكس فقد كان يأمر ولاة الأقاليم التابعة لحكمه بعدم التعرض لهم في طريقهم ما داموا لا يفسدون في الأرض ولا يعتدون على الناس ( ) , وقال لهم : " إن لكم عندنا ثلاثاً ، لا نمنعكم صلاة في هذا المسجد ، ولا نمنعكم نصيبكم من هذا الفيء ما كانت أيديكم مع أيدينا ، ولا نقاتلكم حتى تقاتلونا " ( ) ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق