- بلادى توداى
- 3:31 ص
- أبحاث ودراسات ، تحليلات هامة
- لا توجد تعليقات
د.علي الصلابي- إسماعيل القريتلي
العدالة الانتقالية – العفو التاريخي في فتح مكة
لعلنا استطعنا أن نرسم صورة العداء الذي كانت تصر عليه قريش تجاه الجماعة المسلمة؛ متمثلة في الرسالة والرسول والمؤمنين. ونعرض في هذا المقال موقف النبي الكريم صلى الله عليه وسلم من كل ذلك العداء، ذلك الموقف المؤسس على رسالة الإسلام، عندما دخل مكة المكرمة موطن قريش التي استمر جحودها وإنكارها للحق حتى بعد إبرام المسلمين عهدا معها هو صلح الحديبية.
بنقض صلح الحديبية... قريش تستمر في العدوان
إن آخر ما فعلته قريش هو نكث العهد، ومخالفة شروط صلح الحديبية، فهي أعانت حلفاءها بني بكر على خزاعة حليفة المسلمين بالخيل والسلاح والرجال، وهاجم بنو بكر وحلفاؤهم قبيلة خزاعة عند ماء يقال له الوتير، وقتلوا أكثر من عشرين من رجالها (1), ولما لجأت خزاعة إلى الحرم الآمن - ولم تكن متجهزة للقتال - لتمنع بني بكر منه، قالت لقائدهم: يا نوفل، إنا قد دخلنا حرم إلهك! فقال نوفل: لا إله اليوم، يا بني بكر أصيبوا ثأركم (2), عندئذ خرج عمرو بن سالم الخزاعي، في أربعين من خزاعة، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، وأخبروه بما كان من بني بكر، وبمن أصيب منهم، وبمناصرة قريش بني بكر عليهم، ووقف عمرو بن سالم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن سمع وتأكد من الخبر أرسل إلى قريش فقال لهم: "أما بعد، فإنكم إن تبرؤوا من حلف بني بكر، أتُدوا خزاعة (3)، وإلا أوذنكم بحرب" فقال قرظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف صهر معاوية: إن بني بكر قوم مشائيم، فلا ندى ما قتلوا لنا سبد، ولا لبد (4)، ولا نبرأ من حلفهم فلم يبق على ديننا أحد غيرهم، ولكن نؤذنه بحرب (5). وبهذا الكتاب أكد النبي الكريم عدم الغدر بقريش، بل أبلغهم بموقفه بوضوح تام.
كان أبو سفيان ممن خالفوا رأي قريش في خيار حرب المسلمين، ولذا حاول بقدومه المدينة أن يعيد للصلح مكانه ويطيل أمده, إلا أنه لم يجد استجابة من المسلمين.
ميزان القوى يرجح كفة المسلمين
1- اقتصاديا
إن قريشا لم تكن مستعدة للحرب لا على المستوى الاقتصادي حيث لم يكن يعادل اقتصادها اقتصاد دولة المسلمين التي اتسعت رقعتها بإسلام أغلب القبائل العربية الأمر الذي زاد من موارد الدولة.
2- سياسيا
لم تكن قريش سياسيا في حالة تسمح لها بمواجهة الوحدة السياسية للمسلمين بعد أن تخلصوا من يهود المدينة، بعد محاولتهم الغدر واغتيال النبي الكريم، في المقابل كانت قريش منقسمة في مواقفها تجاه المسلمين؛ فأبو سفيان والعديد معه لم يكونوا مع خيار الحرب.
3- عسكريا
كما أن الميزان العسكري لم يكن كذلك متساويا فالمسلمون أعدوا بسهولة جيشا من عشرة آلاف مقاتل، ولم يكن لقريش ثلث هذا العدد. وهكذا كانت كل الظروف لصالح المسلمين وكان من الممكن أن يقضوا على قريش دون أي مقاومة تذكر. لكن يتبين من خلال هذه المقال كيف تجاوز سلوك النبي الكريم والمسلمين كل ما يمكن أن يتوقعه الإنسان، فالعفو أمام كل هذا التراكم من الإيذاء والنكران لابد وأن يصدر عن صاحب رسالة تعلو بالإنسان فوق نفسه وحظوظها، لأجل غاية تستحق هذا الترفع الممدوح.
بوادر العفو والغفران
بوادر العفو والغفران
أثناء سير المسلمين إلى مكة واقترابهم منها لقيهم أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وعبد الله بن أمية بن المغيرة بثنية العقاب، فالتمسا الدخول على النبي صلى الله عليه وسلم، فكلمته أم سلمة فقالت: يا رسول الله ابن عمك، وابن عمتك وصهرك، فقال: لا حاجة لي فيهما؛ أما ابن عمي فهتك عرضي، وأما ابن عمتي وصهري فهو الذي قال لي بمكة ما قال، فلما خرج الخبر إليهما بذلك -ومع أبي سفيان ابن له- فقال: والله ليأذنن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لآخذن بيد ابني هذا، ثم لنذهب في الأرض حتى نموت عطشًا أو جوعًا، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم رقَّ لهما، فدخلا عليه، فأنشده أبو سفيان قوله في إسلامه واعتذاره عما كان مضى فيه وكان مما أنشده قوله:
هداني هاد غير نفسي ودلني *** إلى الله من طرَّدت كل مطرد
فلما سمع النبي الكريم البيت، ضرب في صدر أبي سفيان، وقال: "أنت طردتني كل مطرد" (6). أما عبد الله بن أمية فقد قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "فوالله لا أومن بك حتى تتخذ إلى السماء سلمًا ثم ترقى فيه وأنا أنظر إليك حتى تأتيها، ثم تأتي بصك معه أربعة من الملائكة يشهدون لك كما تقول, ثم وأيم الله لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك" (7). ولكن لم يقف النبي عند فداحة جرمهما بل عفا عنهما وقبل عذرهما، ولم يتعلل بعظم الإساءة سواء لشخصه صلى الله عليه وسلم أو للإسلام والمسلمين، بل تجاوز ذلك بأن صفح عنهما صفحا جميلا، كان له ولا شك أثرا إيجابيا بعد أن انتشر خبر العفو بين أهل مكة.
العفو يتواصل مع سيد قريش
جاء أبو سفيان الذي خرج يلتقط الأخبار، إلى النبي صلى الله عليه وسلم صحبة عمه العباس رضي الله عنه، فلم ينشغل النبي صلى الله عليه وسلم في محاسبة أبي سفيان ولم يصرف وقته في مقاضاته، وهو كالأسير داخل معسكر المسلمين، بل توجه ليحدثه عن هدف سامٍ عاش النبي الكريم لأجله؛ هو الدعوة إلى الله، فوجه كلامه لأبي سفيان: "ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟" قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني بعد، قال: "ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟" قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! أما هذه والله فإن في النفس منها حتى الآن شيئًا، فقال له العباس: ويحك أسلم قبل أن نضرب عنقك، قال: فشهد شهادة الحق فأسلم. قال العباس: قلت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئًا, قال: "نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن".
لقد كان لتلك الطريقة المحمدية أثرها في أبي سفيان الذي تغير إلى الولاء الكامل للدعوة الجديدة، وكان له مواقف كبيرة في الجهاد مع رسول الله في معركة حنين (8). كما كان هذا الأسلوب النبوي الكريم عاملا في امتصاص الحقد من قلب أبي سفيان زعيم قريش, وبرهن له بأن المكانة التي كانت له عند قومه، لن تنتقص شيئا في الإسلام، إن هو أخلص له وبذل في سبيله. (9)
ونحن إذ نعيش ظروفا جديدة في وطننا، فإننا ندعو أبناء هذا الوطن إلى التغافر، طبعا بعد التعويض الكامل لكل من مسه الأذى ولقيه العنت ووقع عليه الظلم، لنمضي تجاه المستقبل، فليس فينا من هو خير من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قابل عظيم الجرم والإساءة بعظيم الرحمة والعفو والتسامح. لقد فعل هذا مع قوم إلى جانب الإيذاء والإساءة الكبيرة فإنهم لم يكونوا مسلمين، وأما نحن وقومنا فالإسلام يجمعنا في منطقة وسط نلتقي فيها للتصالح.
تأمين الأجواء للعفو بمنع التجول
لقد أعلن في مكة قبيل دخول جيش المسلمين أسلوب منع التجول؛ لكي يتمكنوا من دخول مكة بأقل قدر من الاشتباكات والاستفزازات، وإراقة الدماء، وأعطي الناس أمانا بالتزام أحد ثلاث :
1- من دخل دار أبي سفيان فهو آمن
2- ومن أغلق بابه فهو آمن
3- ومن دخل المسجد فهو آمن
الاستعانة بسيد قريش لتحقيق العفو
لقد تأثر أبو سفيان بما منحه النبي صلى الله عليه وسلم له من مكان بأن جعل داره أمانا للناس، فانطلق إلى مكة مسرعًا ونادى بأعلى صوته: يا معشر قريش, هذا محمد جاءكم فيما لا قِبَل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، قالوا: قاتلك الله! وما تغني عنا دارك؟! قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. وتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد (10).
ولقد دخلت قوات المسلمين مكة دون مقاومة تذكر إلا ما كان من جهة خالد بن الوليد الذي قابل عكرمة بن أبي جهل في نفر ممن خافوا الانتقام، فهزمهم خالد فهربوا خارج مكة ثم عاد عكرمة ليأخذ أمانا وعفوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسلم ويشارك في الجهاد حتى يقتل في أحد معارك المسلمين. (11)
الدخول الخاشع العادل يعزز من شعور الأمان
دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام (12), وهو واضع رأسه تواضعًا لله، حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن ذقنه ليكاد يمس واسطة الرحل، ودخل وهو يقرأ سورة الفتح (13) مستشعرًا بنعمة الفتح وغفران الذنوب، وإفاضة النصر العزيز (14), ورافعا كل شعار من شعارات العدل والمساواة، والتواضع والخضوع، فأردف أسامة بن زيد (15) -وهو ابن مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم- ولم يردف أحدا من أبناء بني هاشم وأبناء أشراف قريش وهم كثير (16).
إعلان النبي الأمن لمكة المكرمة
لقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تأمين أهل مكة وبسط الطمأنينة بينهم، فما أن بلغته مقولة سعد بن عبادة رضي الله عنه لأبي سفيان: اليوم يوم الملحمة، اليوم نستحل الكعبة, قال صلى الله عليه وسلم: "هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة" (17)، وأخذ الراية من سعد بن عبادة وسلمها لابنه قيس بن سعد؛ وبهذا التصرف الحكيم حال دون أي احتمال لمعركة جانبية هم في غنى عنها، وفي نفس الوقت لم يثر سعدا، فهو لم يأخذ الراية من أنصاري ويسلمها لمهاجر، بل أخذها من أنصاري وسلمها لابنه، ومن طبيعة البشر ألا يرضى الإنسان بأن يكون أحد أفضل منه إلا ابنه (18).
يوم بر ووفاء
دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت الحرام بعد أن طهر من الأصنام، ثم دخل الكعبة ومعه أسامة وبلال وعثمان بن طلحة سادن الكعبة، ولم يكن مسلما حينها، وفي هذا دلالة عميقة على أن الإسلام لا ينظر إلى النسب والحسب باعتبارهما ميزان التفضيل بين الناس، ففي حدث عظيم كفتح مكة يرافق النبي المنصور إلى البيت والكعبة أسامة الذي كان هو ووالديه موالي في قريش، وبلال الذي كان عبدا في قريش.
وأراد العباس رضي الله عنه أن يكون له مفتاح الكعبة مع السقاية، لكن النبي صلى الله عليه وسلم رده إلى عثمان بن طلحة بعد أن خرج من الكعبة قائلا له: "اليوم يوم بر ووفاء"(19)، وكان صلى الله عليه وسلم قد طلب من عثمان بن طلحة المفتاح قبل أن يهاجر إلى المدينة، فأغلظ عثمان القول للرسول الكريم ونال منه، فحلم عنه المصطفى, وقال: "يا عثمان، لعلك ترى هذا المفتاح يومًا بيدي, أضعه حيث شئت" فقال: لقد هلكت قريش يومئذ وذلت، فقال: "بل عمرت وعزت يومئذ"، ووقعت كلمته من عثمان بن طلحة موقعًا، وظن أن الأمر سيصير إلى ما قال(20), ولقد أعطى له رسول الله صلى الله عليه وسلم مفاتيح الكعبة قائلا له: "هاك مفتاحك يا عثمان, اليوم يوم بر ووفاء (21)، خذوها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم" (22).
وهكذا تتوالى قصص العفو والتسامح والتغافر التي سطرها المصطفى صلى الله عليه وسلم فلم يشأ أن يضع مفتاح الكعبة عند أحد من بني هاشم، وقد تطاول لأخذه رجال منهم.
هذا مفهوم الفتح الأعظم في شرعة رسول الله صلى الله عليه وسلم: البر والوفاء حتى للذين غدروا ومكروا، وتطاولوا(23).
إذا لن يعيبنا اليوم أن نلتزم هذا النهج الكريم وأن نبثه بيننا نحن أبناء الوطن الواحد، مهما تعاظمت الاختلافات، ومهما توالت الإساءات والمظالم، فالعفو والصفح والتغافر هو الأفضل للمتخاصمين، وللوطن، وللأجيال القادمة، وهذا بالطبع ما سطره لنا التاريخ في فتح مكة، وما فعله الحسن رضي الله عنه مع معاوية في المصالحة الوطنية الكبرى. ونخال أن الاقتداء بهذين الخبرتين التاريخيتين شرف لنا قبل أن يكونا حلا ناجعا لمشاكلنا، واختلافاتنا.
إن هذه المصالحات وتلك العدالة الانتقالية تمهد الضمائر والعقول لانطلاق حوار وطني يرتكز ليس على المحاسبة والمحاكمة، بل على بناء الوطن والتخطيط الجماعي للمستقبل. ويدعم المشاورات لتأسيس واقع جديد يحميه دستور وقانون يتساوى أمامه الجميع بغض النظر عن الفوارق بيننا. ولن ينفي هذا كله أن ترد الحقوق إلى أصحابها وأن يعوض المتضررون من أي إجراء سابق.
لا تثريب عليكم اليوم... إعلان العفو العام
لقد نال أهل مكة عفوًا عامًّا رغم أنواع الأذى التي ألحقوها بالرسول صلى الله عليه وسلم ودعوته، ورغم قدرة الجيش الإسلامي على إبادتهم. وقد جاء إعلان العفو عنهم وهم مجتمعين قرب الكعبة ينتظرون حكم الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم, فقال: "ما تظنون أني فاعل بكم؟" فقالوا: خيرًا أخٌ كريمٌ وابن أخٍ كريمٍ، فتلا عليهم ما قاله يوسف عليه السلام لأخوته: "لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ" [يوسف:92](24). إذا هي سنة الأنبياء والمؤمنين التزم به النبي صلى الله عليه وسلم مع أعداء الأمس القريب، فكان أن ترتب على العفو العام التالي:
1- حفظ الأنفس من القتل أو السبي.
2- إبقاء الأموال المنقولة والأراضي بيد أصحابها.
3- عدم فرض الخراج عليها.
إن الكثير من أهل مكة كان من الممكن أن تنفذ فيهم أحكام القصاص وما دونه بسبب ما مارسوه أو ارتكبوه في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وربما هذا ما عبر عنه سعد بن عبادة بأن اليوم هو يوم ملحمة، ينتقم فيها المسلمون ممن ظلمهم وحاول القضاء على دعوتهم، ولكن النبي قاد المسلمين إلى العفو، هذا العفو الذي ستترتب عنه الكثير من النتائج.
مكة حرام بحرمة الله... تعمق الشعور بالأمن
بلغ النبي الكريم غداة الفتح أن خزاعة حلفاءه عدت على رجل من هذيل فقتلوه - وهو مشرك- برجل قتل في الجاهلية، فغضب وقام بين الناس خطيبًا فقال: "يا أيها الناس إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دمًا، ولا يعضد –يقطع- فيها شجرًا, لم تحل لأحد كان قبلي، ولا تحل لأحد يكون بعدي, ولم تحل لي إلا هذه الساعة غضبًا على أهلها، ثم قد رجعت كحرمتها بالأمس, فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فمن قال لكم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قاتل فيها فقولوا: إن الله قد أحلها لرسوله ولم يحلها لكم.
يا معشر خزاعة, ارفعوا أيديكم عن القتل, فلقد كثر أن يقع، لقد قتلتم قتيلا لأدينَّه، فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين، إن شاءوا فدم قاتله، وإن شاءوا فعقله" (25).
وهكذا انتهى الفتح الأكبر ولم يهتك لأهل مكة عرض، أو ينهب منهم درهم، بل كان يوم دخول المسلمين أكثر أمنا من اليوم الذي سبقه، فقد أخذت قريش الأمان قبل أن تطلبه، ولم يضطرها المسلمون بقيادة محمد صلى الله عليه وسلم إلى التفاوض فضلا عن الاستجداء، وهكذا تمكن النبي صلى الله عليه وسلم، بعفوه العظيم أن يهز ضمائر قريش، ولم يترك لهم فرصة للتفكير فيما سوى سماحة هذا الدين الكريم ونبيه العفو وأتباعه الملتزمين، وبقوة العفو وعمق الغفران دخل الإسلام قلوب المكيين، فحولهم من أعداء إلى أكثر الناس ولاء للإسلام ودعوته الإنسانية.
إن هذا العفو وتلك العدالة المتسامحة تزداد إشراقا كلما تفكرنا فيها، وأجلنا النظر في تفاصيلها التي لخصنا منها ما يصلح لموضوعنا عن المصالحة والتصالح، فبلادنا والكثير من بلاد المسلمين بل والإنسانية جمعاء، بحاجة أن تقف مليا عند هذه الوقائع ليس فقط لتبدي دهشتها أمام صورتين متناقضتين الأولى وقفت فيها قريش بكل جبروتها وظلمها وقهرها للمسلمين، والثانية ترسم لنا الجماعة المسلمة بقيادة نبيها وهدي رسالتها وقد تغاضت عن كل ذلك الماضي الأسود بالظلم، لتستبدله بعفو كامل، وعدالة شاملة.
إننا نهيب بكل أبناء الوطن من ظلم منهم ومن ظلم، إلى الاطلاع والوقوف والتأمل ومن ثم الاقتداء بما قدمه الرسول وأصحابه من طي صفحة الماضي أمام قريش، والتعلق بالحاضر والمستقبل، والسير قدما نحو البناء وتقاسم الواجبات، وحفظ الحقوق.
في المقال القادم سننهي بإذن الله تعالى تناولنا للعدالة الانتقالية والعفو التاريخي بالحديث عن بعض النتائج التي ترتبت على فتح مكة بهذه الصورة المشرقة.
-------------------------------------------------------------
(1) انظر: الواقدي (2/781- 784).
(1) انظر: الواقدي (2/781- 784).
(2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/39).
(3) أي تدفعوا دية قتلاهم.
(4) السبد: الشعر واللبد: الصوف، يعني إن فعلنا ذلك لم يبق لنا شيء.
(5) انظر: المطالب العالية (4/243) رقم 4361، قال ابن حجر: مرسل صحيح الإسناد.
(6) أخرجه الحاكم في المستدرك (3/43- 45) ومجمع الزوائد (6/164- 167).
(7) انظر: ابن هشام (1/295- 300).
(8) انظر: التاريخ الإسلامي (7/182).
(9) انظر: قراءة سياسية للسيرة النبوية، محمد رواس، ص245.
(10) انظر: البداية والنهاية (4/290).
(11) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، ص397.
(12) البخاري، كتاب المغازي (5/108) رقم 4281.
(13) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، ص396.
(14) البخاري، كتاب المغازي رقم 4289.
(15) انظر: السيرة النبوية لأبي الحسن الندوي، ص337.
(16) البخاري، كتاب المغازي، باب أين ركز النبي الراية يوم الفتح (5/108) رقم 4280.
(17) انظر: قيادة الرسول صلى الله عليه وسلم السياسية والعسكرية، ص196.
(18) المصدر نفسه (4/61). (3) انظر: المغازي، (2/838).
(19) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/62).
(20) انظر: المغازي (2/838).
(21) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، ص401.
(22) انظر: المجتمع المدني للعمري، ص179.
(23) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/451)، وعقله: ديته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق