- بلادى توداى
- 10:24 ص
- روائع الظلال ، سيد الظلال
- لا توجد تعليقات
سيد الظلال ـ روائع الظلال : من تفسير سورة الأنعام
حكمة البدء بالعقيدة وليس بالقومية أو الإجتماعية أو الأخلاقية
وأصحاب الدعوة إلى دين الله , وإقامة النظام الذي يتمثل فيه هذا الدين في واقع الحياة ; خليقون أن يقفوا طويلا أمام هذه الظاهرة الكبيرة . . ظاهرة تصدي القرآن المكي خلال ثلاثة عشر عاما . . لتقرير هذه العقيدة ; ثم وقوفه عندها لا يتجاوزها إلى شيء من تفصيلات النظام الذي يقوم عليها , والتشريعات التي تحكم المجتمع المسلم الذي يعتنقها . .
لقد شاءت حكمة الله أن تكون قضية العقيدة هي القضية التي تتصدى الدعوة لها منذ اليوم الأول للرسالة . وأن يبدأ رسول الله [ ص ] أولى خطواته في الدعوة , بدعوة الناس أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ; وأن يمضي في دعوته يعرف الناس بربهم الحق , ويعبدهم له دون سواه .
ولم تكن هذه - في ظاهر الأمر وفي نظرة العقل البشري المحجوب - هي أيسر السبل إلى قلوب العرب ! فلقد كانوا يعرفون من لغتهم معنى:"إله" ومعنى:"لا إله إلا الله" . . كانوا يعرفون أن الألوهية تعني الحاكمية العليا . . وكانوا يعرفون أن توحيد الألوهية وإفراد الله - سبحانه - بها , معناه نزع السلطان الذي يزاوله الكهان ومشيخة القبائل والأمراء والحكام , ورده كله إلى الله . . السلطان على الضمائر , والسلطان على الشعائر , والسلطان على واقعيات الحياة . . السلطان في المال , والسلطان في القضاء , والسلطان في الأرواح والأبدان . . كانوا يعلمون أن:"لا إله إلا الله" ثورة على السلطان الأرضي , الذي يغتصب أولى خصائص الألوهية , وثورة على الأوضاع التي تقوم على قاعدة من هذا الاغتصاب ; وخروج على السلطات التي تحكم بشريعة من عندها لم يأذن بها الله . . ولم يكن يغيب عن العرب - وهم يعرفون لغتهم جيدا , ويعرفون المدلول الحقيقي لدعوة:"لا إله إلا الله" - ماذا تعنيه هذه الدعوة بالنسبة لأوضاعهم ورياساتهم وسلطانهم . . ومن ثم استقبلوا هذه الدعوة - أو هذه الثورة - ذلك الاستقبال العنيف , وحاربوها تلك الحرب التي يعرفها الخاص والعام . .
فلم كانت هذه نقطة البدء في هذه الدعوة ? ولم اقتضت حكمة الله أن تبدأ بكل هذا العناء ?
لقد بعث رسول الله [ ص ] بهذا الدين , وأخصب بلاد العرب وأغناها ليست في أيدي العرب ; إنما هي في يد غيرهم من الأجناس !
بلاد الشام كلها في الشمال خاضعة للروم , يحكمها أمراء من العرب من قبل الرومان . وبلاد اليمن كلها في الجنوب خاضعة للفرس يحكمها أمراء من العرب من قبل الفرس . . وليس في أيدي العرب إلا الحجاز ونجد وما إليهما من الصحارى القاحلة , التي تتناثر فيها الواحات الخصبة هنا وهناك !
وكان في استطاعة محمد [ ص ] وهو الصادق الأمين ; الذي حكمه أشراف قريش قبل ذلك في وضع الحجر الأسود , وارتضوا حكمه , منذ خمسة عشر عاما ; والذي هو في الذؤابة من بني هاشم أعلى قريش نسبا . . كان في استطاعته أن يثيرها قومية عربية تستهدف تجميع قبائل العرب , التي أكلتها الثارات , ومزقتها النزاعات , وتوجيهها وجهة قومية لاستخلاص أرضها المغتصبة من الإمبراطوريات المستعمرة ; الرومان في الشمال والفرس في الجنوب ; وإعلاء راية العربية والعروبة ; وإنشاء وحدة قوية في كل أرجاء الجزيرة . .
ولو دعا يومها رسول الله [ ص ] هذه الدعوة لاستجابت له العرب قاطبة - على الأرجح - بدلا من أن يعاني ثلاثة عشر عاما في اتجاه معارض لأهواء أصحاب السلطان في الجزيرة !
وربما قيل:إن محمدا [ ص ] كان خليقا بعد أن يستجيب له العرب هذه الاستجابة ; وبعد أن يولوه فيهم القيادة والسيادة ; وبعد استجماع السلطان في يديه والمجد فوق مفرقه . . أن يستخدم هذا كله في إقرار عقيدة التوحيد التي بعثه بها ربه , وفي تعبيد الناس لسلطان ربهم بعد أن عبدهم لسلطانه !
ولكن الله - سبحانه - وهو العليم الحكيم , لم يوجه رسوله [ ص ] هذا التوجيه ! إنما وجهه إلى أن يصدع بلا إله إلا الله:وأن يحتمل هو والقلة التي تستجيب له كل هذا العناء !
لماذا ? إن الله - سبحانه - لا يريد أن يعنت رسوله والمؤمنين معه . . إنما هو - سبحانه - يعلم أن ليس هذا هو الطريق . . ليس الطريق أن تخلص الأرض من يد طاغوت روماني أو طاغوت فارسي . . إلى يد طاغوت عربي . . فالطاغوت كله طاعوت ! . . إن الأرض لله , ويجب أن تخلص لله . ولا تخلص لله إلا أن ترتفع عليها راية:"لا إله إلا الله" . . وليس الطريق أن يتحرر الناس في هذه الأرض من طاغوت روماني أو طاغوت فارسي . . إلى طاغوت عربي . . فالطاغوت كله طاغوت ! إن الناس عبيد لله وحده , ولا يكونون عبيدا لله وحده إلا أن ترتفع راية:"لا إله إلا الله" . . "لا اله الا الله" كما كان يدركها العربي العارف بمدلولات لغته:لا حاكمية إلا لله , ولا شريعة إلا من الله , ولا سلطان لأحد على أحد , لأن السلطان كله لله . . ولأن الجنسية التي يريدها الإسلام للناس هي جنسية العقيدة , التي يتساوي فيها العربي والروماني والفارسي وسائر الأجناس والألوان تحت راية الله .
وهذا هو الطريق . .
وبعث رسول الله [ ص ] بهذا الدين , والمجتمع العربي كأسوأ ما يكون المجتمع توزيعا للثروة والعدالة . . قلة قليلة تملك المال والتجارة ; وتتعامل بالربا فتضاعف تجارتها ومالها . وكثرة كثيرة لا تملك إلا الشظف والجوع . . والذين يملكون الثروة يملكون معها الشرف والمكانة ; وجماهير كثيفة ضائعة من المال والمجد جميعا !
وكان في استطاعة محمد [ ص ] أن يرفعها راية اجتماعية ; وأن يثيرها حربا على طبقة الأشراف ; وأن يطلقها دعوة تستهدف تعديل الأوضاع ورد أموال الأغنياء على الفقراء !
ولو دعا يومها رسول الله [ ص ] هذه الدعوة , لانقسم المجتمع العربي صفين:الكثرة الغالبة فيه مع الدعوة الجديدة , في وجه طغيان المال والشرف . بدلا من أن يقف المجتمع كله صفا في وجه:"لا إله إلا الله" التي لم يرتفع إلى أفقها في ذلك الحين إلا الأفذاذ من الناس .
وربما قيل:إن محمدا [ ص ] كان خليقا بعد أن تستجيب له الكثرة ; وتوليه قيادها ; فيغلب بها القلة ويسلس له مقادها . . أن يستخدم مكانه يومئذ وسلطانه في إقرار عقيدة التوحيد التي بعثه بها ربه , وفي تعبيد الناس لسلطان ربهم بعد أن عبدهم لسلطانه !
ولكن الله - سبحانه - وهو العليم الحكيم , لم يوجهه هذا التوجيه . .
لقد كان الله - سبحانه - يعلم أن هذا ليس هو الطريق . . كان يعلم أن العدالة الاجتماعية لا بد أن تنبثق في المجتمع من تصور اعتقادي شامل ; يرد الأمر كله لله ; ويقبل عن رضى وعن طواعية ما يقضي به الله من عدالة في التوزيع , ومن تكافل بين الجميع ; ويستقر معه في قلب الآخذ والمأخوذ منه أنه ينفذ نظاما يرضاه الله ;ويرجو على الطاعة فيه الخير والحسنى في الدنيا والآخرة سواء . فلا تمتلى ء قلوب بالطمع , ولا تمتلىء قلوب بالحقد ; ولا تسير الأمور كلها بالسيف والعصا ; وبالتخويف والإرهاب ! ولا تفسد القلوب كلها وتختنق الأرواح ; كما يقع في الأوضاع التي نراها قد قامت على غير:"لا إله إلا الله" . .
وبعث رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] والمستوى الأخلاقي في الجزيرة العربية في الدرك الأسفل في جوانب منه شتى - إلى جانب ما كان في المجتمع من فضائل الخامة البدوية .
كان التظالم فاشيا في المجتمع , تعبر عنه حكمة الشاعر: زهير بن أبى سلمى:
( ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه **** يهدم , ومن لا يظلم الناس يظلم )
ويعبر عنه القول المتعارف: "انصر أخاك ظالما أو مظلومًا" .
وكانت الخمر والميسر من تقاليد المجتمع الفاشية ومن مفاخرة كذلك ! يعبر عن هذه الخصلة الشعر الجاهلي بجملته . . كالذي يقوله طرفة بن العبد:
( فلولا ثلاث هن من زينة الفتى *** وجدك لم أحفل متى قام عودي )
( فمنهن سبقي العاذلات بشربة *** كميت متى ما تعل بالماء تزبد ! )
. . . الخ
وكانت الدعارة - في صور شتى - من معالم هذا التجمع . . كالذي روته عائشة رضي الله عنها:
"إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء:فنكاح منها نكاح الناس اليوم:يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو بنته , فيصدقها ثم ينكحها . . والنكاح الآخر كان الرجل يقول لامرأته - إذا طهرت من طمثها - أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه . ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه . فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب . وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد ! فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع . . ونكاح آخر:يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرآة , كلهم يصيبها . فإذا حملت ووضعت , ومر عليها ليال , بعد أن تضع حملها , أرسلت إليهم , فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع , حتى يجتمعوا عندها , تقول لهم:قد عرفتم الذي كان من أمركم , وقد ولدت , فهو ابنك يا فلان , تسمي من أحبت باسمه فيلحق به ولدها , ولا يستطيع أن يمتنع به الرجل . والنكاح الرابع يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها - وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن الرايات تكون علما , فمن أرادهن دخل عليهن - فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها , جمعوا لها ودعوا القافة , ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاطه , ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك" . . . [ أخرجه البخاري في كتاب النكاح ] .
وكان في استطاعة محمد [ ص ] أن يعلنها دعوة إصلاحية , تتناول تقويم الأخلاق , وتطهير المجتمع , وتزكية النفوس , وتعديل القيم والموازين . .
وكان واحدا وقتها - كما يجد كل مصلح أخلاقي في أية بيئة - نفوسا طيبة , يؤذيها هذا الدنس ; وتأخذها الأريحية والنخوة لتلبية دعوة الإصلاح والتطهير . .
وربما قال قائل:إنه لو صنع رسول الله [ ص ] ذلك فاستجابت له - في أول الأمر - جمهرة صالحة ; تتطهر أخلاقها , وتزكو أرواحها , فتصبح أقرب إلى قبول العقيدة وحملها . . بدلا من أن تثير دعوة أن لا إله إلا الله المعارضة القوية منذ أول الطريق !
ولكن الله - سبحانه - وهو العليم الحكيم , لم يوجه رسوله [ ص ] إلى مثل هذا الطريق . .
لقد كان الله - سبحانه - يعلم أن ليس هذا هو الطريق ! كان يعلم أن الأخلاق لا تقوم إلا على أساس من عقيدة , تضع الموازين , وتقرر القيم وتقرر السلطة التي ترتكن إليها هذه الموازين والقيم ; كما تقرر الجزاء الذي تملكه هذه السلطة وتوقعه على الملتزمين والمخالفين . وأنه قبل تقرير تلك العقيدة تظل القيم كلها متأرجحة ; وتظل الأخلاق التي تقوم عليها متأرجحة كذلك ; بلا ضابط , وبلا سلطان , وبلا جزاء !
فلما تقررت العقيدة - بعد الجهد الشاق - وتقررت السلطة التي ترتكن إليها هذه العقيدة . . لما عرف الناس ربهم وعبدوه وحده . . لما تحرر الناس من سلطان العبيد , ومن سلطان الشهوات سواء . . لما تقررت في القلوب:"لا إله إلا الله" . . صنع الله بها وبأهلها كل شيء مما يقترحه المقترحون . .
تطهرت الأرض من الرومان والفرس . . لا ليتقرر فيها سلطان العرب . . ولكن ليتقرر فيها سلطان الله . . لقد تطهرت من الطاغوت كله:رومانيا وفارسيا وعربيا على السواء .
وتطهر المجتمع من الظلم الاجتماعي بجملته . وقام النظام الإسلامي يعدل بعدل الله , ويزن بميزان الله ويرفع راية العدالة الاجتماعية باسم الله وحده ; ويسميها راية الإسلام , لا يقرن إليها اسما آخر ; ويكتب عليها:"لا إله إلا الله" !
وتطهرت النفوس والأخلاق , وزكت القلوب والأرواح ; دون أن يحتاج الأمر إلى الحدود والتعازير التي شرعها الله - إلا في الندرة النادرة - لأن الرقابة قامت هنالك في الضمائر ; ولأن الطمع في رضى الله وثوابه , والحياء والخوف من غضبه وعقابه قد قامت كلها مقام الرقابة ومقام العقوبات . .
وارتفعت البشرية في نظامها , وفي أخلاقها , وفي حياتها كلها , إلى القمة السامقة التي لم ترتفع إليها من قبل قط ; والتي لم ترتفع إليها من بعد إلا في ظل الإسلام . .
ولقد تم هذا كله لأن الذين أقاموا هذا الدين في صورة دولة ونظام وشرائع وأحكام ; كانوا قد أقاموا هذا الدين من قبل في ضمائرهم وفي حياتهم , في صورة عقيدة وخلق وعبادة وسلوك . وكانوا قد وعدوا على إقامة هذا الدين وعدا واحدا , لا يدخل فيه الغلب والسلطان . . ولا حتى لهذا الدين على أيديهم . . وعدا واحدا لا يتعلق بشيء في هذه الدنيا . . وعدا واحدا هو الجنة . . هذا كل ما وعدوه على الجهاد المضني , والابتلاء الشاق , والمضي في الدعوة , ومواجهة الجاهلية بالأمر الذي يكرهه أصحاب السلطان , في كل زمان وفي كل مكان , وهو:"لا إله إلا الله"
فلما أن ابتلاهم الله فصبروا ; ولما أن فرغت نفوسهم من حظ نفوسهم ; ولما أن علم الله منهم أنهم لا ينتظرون جزاء في هذه الأرض - كائنا ما كان هذا الجزاء ولو كان هو انتصار هذه الدعوة على أيديهم , وقيام هذا الدين في الأرض بجهدهم - ولما لم يعد في نفوسهم اعتزاز بجنس ولا قوم , ولا اعتزاز بوطن ولا أرض . ولا اعتزاز بعشيرة ولا بيت . .
لما أن علم الله منهم ذلك كله , علم أنهم قد أصبحوا - إذن - أمناء على هذه الأمانة الكبرى . أمناء على العقيدة التي يتفرد فيها الله سبحانه بالحاكمية في القلوب والضمائر وفي السلوك والشعائر , وفي الأرواح والأموال , وفي الأوضاع والأحوال . . وأمناء على السلطان الذي يوضع في أيديهم ليقوموا به على شريعة الله ينفذونها , وعلى عدل الله يقيمونه , دون أن يكون لهم من ذلك السلطان شيء لأنفسهم ولا لعشيرتهم ولا لقومهم ولالجنسهم ; إنما يكون السلطان الذي في أيديهم لله ولدينه وشريعته , لأنهم يعلمون أنه من الله , هو الذي آتاهم إياه .
ولم يكن شيء من هذا المنهج المبارك ليتحقق على هذا المستوى الرفيع , إلا أن تبدأ الدعوة ذلك البدء , وإلا أن ترفع الدعوة هذه الراية وحدها . . راية لا إله إلا الله . . ولا ترفع معها سواها . . وإلا أن تسلك الدعوة هذا الطريق الوعر الشاق في ظاهره ; المبارك الميسر في حقيقته .
وما كان هذا المنهج المبارك ليخلص لله , لو أن الدعوة بدأت خطواتها الأولى دعوة قومية , أو دعوة اجتماعية , أو دعوة أخلاقية . . أو رفعت أي شعار إلى جانب شعارها الواحد:"لا إله إلا الله" . .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق