- بلادى توداى
- 10:23 ص
- أبحاث ودراسات
- لا توجد تعليقات
الخاتمـة
يدنو كل إنسانٍ من لحظة أجله الحاسمة مع مرور كل دقيقة من الزمن, فمسألة السنّ ليس لها أهمية، والموت قريب من الصغار قربه من الكبار ولا فرق بينهما. فليس الموت أقرب من ابن الثامنة والستين عاماً وهو ممدد على سرير المرض, ينتظر الموت, من الفتاة ذات الثامنة عشرة ربيعاً تقطع قارعة الطريق, وكم هي كثيرة حوادث السير التي تودي بحياة الكثيرين من المارّة, وما يدريك أن تكون هذه لحظة موتها أو موته, وهذه واحدة من أهم الحقائق وأخطرها في حياة الإنسان.
ينهمك كل إنسان في سباق حميم لقطع مراحل متعددة ومتقدمة نحو حياة الآخرة فيما قدر لهم من فتراتٍ زمنية، هي مجمل آجالهم. وكما قال العلامة بديع الزمان رحمه الله تعالى: "إنّ هذه الدار الفانية هي إلا بمثابة مزرعة، وميدان تعليم".
فالناس في هذه الدنيا يمكن أن يعقدوا صفقات تجارية رابحة مع الله تعالى لينالوا في الآخرة عوضاً لا نهاية له. فأصحاب المنطق السليم يستمعون لنداء فطرتهم, مدركين أن لله مشيئة في دوام اختبارهم, عالمين مشقة الطريق, وكان نزول القرآن عوناً وهداية لهم, آخذين من بعثة الرسل الكرام معالم طريقهم الحق. فالذين ينيبون لربهم عز وجل بقلوب مؤمنة مخلصة سينعمون بالطمأنينة مهما واجهوا من مشقات حتى تكتب لهم النجاة. ومن الأسرار المهمة التي تفصح عنها هذه الابتلاءات أنها مليئة بأعظم احتمالات الخير لكل المؤمنين.
فينبغي أن يكون ديدن المؤمنين الرضا بما كشف لهم من مجريات القدر, والتزام أخلاق أهل التقوى من المؤمنين كما وصفوا في القرآن الكريم, فهم متشبثون بإيمانهم بالله عز وجل, متحلين بالصبر والثبات أثناء تقدمهم نحو الحياة الآخرة الحقيقية:
( وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) ) ( سورة آل عمران: 146-147. )
خديعة التـطور
إن نظرية التطور والدارونية هي نظرية ظهرت لتناهض فكرة خلق الأحياء, ولكنها لم تتجاوز حد كونها سفسطة لا تمت إلى العلم بأية صلة, إضافة إلى كونها نظرية بعيدة عن أي نجاح وانتشار. وتدعي هذه النظرية أن الحياة نشأت من مواد حية بفعل المصادفات, ولكن هذا الادعاء سرعان ما تهاوى أمام ثبوت خلق الأحياء وغير الأحياء من قبل الله عز وجل. فالذي خلق الكون ووضع فيه الموازين الدقيقة هو بلا شك الخالق الفاطر سبحانه وتعالى. ونظرية التطور لا يمكن لها أن تكون صائبة طالما تشبثت بفكرة رفض "خلق الله للكائنات " وتبني مفهوم "المصادفة " بدلاً عنها. وبالفعل عندما تتفحص جوانب هذه النظرية من أبعادها كافة نجد أن الأدلة العلمية تفندها تفنيدا كاملا. فالتصميم الخارق الموجود في الكائنات الحية أكثر تعقيداً من الكائنات غير الحية, ومثال على ذلك الذرات، فهي موجودة وفق موازين حساسة للغاية. ونستطيع أن نميز هذه الموازين بإجراء الأبحاث المختلفة عليها, إلا أن هذه الذرات نفسها موجودة في العالم الحي وفق ترتيب آخر أكثر تعقيداً. فهي تعد مواد أساسية لتركيب البروتينات والأنزيمات والخلايا, وتشمل في داخلها آليات ومعايير حساسة إلى درجة مدهشة. إن هذا التصميم الخارق كان سبباً رئيساً لتفنيد مزاعم هذه النظرية بحلول نهاية القرن العشرين .
المصاعب التي هدمت الداروينية
ظهرت هذه النظرية بصورة محددة المعالم في القرن التاسع عشر مستندة إلى التراكمات الفكرية والتي تمتد جذورها إلى الحضارة الإغريقية، ولكن الحدث الذي بلور هذه النظرية وجعل لها موطئ قدم في دنيا العلم هو صدور كتاب " أصل الأنواع" لمؤلفه تشارلز دارون. ويعارض المؤلف في كتابه فكرة خلق الكائنات الحية المختلفة من قبل الله سبحانه وتعالى, وبدلاً من ذلك يدعو إلى اعتقاده المبني على نشوء الكائنات الحية كافة من جد واحد. وبمرور الزمن ظهر الاختلاف بين الأحياء نتيجة حدوث التغيرات الطفيفة.
إن هذا الادعاء الدارويني لم يستند إلى أي دليل علمي, ولم يتجاوز كونه "جدلاً منطقياً" وهذا باعترافه هو شخصياً, حتى أن الكتاب احتوى على باب باسم "مصاعب النظرية" تناول بصورة مطولة اعترافات داريون نفسه بوجود العديد من الأسئلة التي لم تستطع النظرية أن تجد لها الردود المناسبة, لتشكل بذلك ثغرات فكرية في بنيان النظرية.
وكان يتمنى أن يجد العلم بتطوره الردود المناسبة لهذه الأسئلة ليصبح التطور العلمي مفتاح قوة للنظرية بمرور الزمن. وهذا التمني طالما ذكره في كتبه, ولكن العلم الحديث خيب أمل دارون وفند مزاعمه واحداً بعد الآخر.
ويمكن ذكر ثلاثة عوامل رئيسة أدت إلى انتهاء الداروينية كنظرية علمية وهي :
1- فشلت النظرية تماماً في إيجاد تفسير علمي لكيفية ظهور الحياة لأول مرّة .
2- عدم وجود أي دليل علمي يدعم فكرة وجود " آليات خاصة للتطور " كوسيلة للتكيف بين الأحياء .
3- إن سجلات حفريات المتحجرات تبين لنا وجود مختلف الأحياء دفعة واحدة عكس ما تدعي نظرية التطور.
وسنشرح بالتفصيل هذه العوامل الثلاثة .
أصل الحياة : الخطوة غير المسبوقة أبداً
تدّعي نظرية التطور أن الحياة والكائنات الحيّة بأكملها نشأت من خلية وحيدة قبل 3,8 مليار سنة. ولكن كيف يمكن لخلية واحدة أن تتحوّل إلى الملايين من أنواع الكائنات الحيّة المختلفة من حيث الشكل والتركيب, وإذا كان هذا التحول قد حدث فعلاً, فلماذا لم توجد أية متحجرات تثبت ذلك ؟ إن هذا التساؤل لم تستطع النظرية الإجابة عنه. وقبل الخوض في هذه التفاصيل يجب التوقف عند الادعاء الأول والمتمثل في تلك "الخلية الأم"، ترى كيف ظهرت إلى الوجود ؟ تدعي النظرية أن هذه الخلية ظهرت إلى الوجود نتيجة المصادفة وحدها وفي ظل ظروف الطبيعة دون أن يكون هناك أي تأثير خارجي أو غير طبيعي, أي إنها ترفض فكرة الخلق رفضاً قاطعاً, بمعنى آخر: تدعي النظرية أن مواد غير حيّة حدثت لها بعض المصادفات أدت بالنتيجة إلى ظهور خلية حيّة, وهذا الادعاء يتنافى تماماً مع كافة القواعد العلمية المعروفة.
"الحياة تنشأ من الحياة "
لم يتحدث تشارلز دارون أبداً عن أصل الحياة في كتابه المذكور, والسبب يتمثل في طبيعة المفاهيم العلمية التي كانت سائدة في عصره, والتي لم تتجاوز فرضية كون الأحياء من مواد بسيطة جداً. وكان العلم آنذاك ما يزال تحت تأثير نظرية "التولد الذاتي" التي كانت تفرض سيطرتها منذ القرون الوسطى, ومفادها أن مواد غير حيّة تجمّعت بالمصادفة وأنتجت مواد حيّة. وهناك بعض الحالات اليومية كانت تسوق بعض الناس إلى تبنّي هذا الاعتقاد مثل تكاثر الحشرات في فضلات الطعام, وتكاثر الفئران في مخازن الحبوب. ولإثبات هذه الادعاءات الغريبة كانت تجري بعض التجارب مثل وضع حفنة من الحبوب على قطعة قماش بالٍ, وعند الانتظار قليلاً تبدأ الفئران بالظهور حسب اعتقاد الناس في تلك الفترة
وكانت هناك ظاهرة أخرى وهي تكاثر الدود في اللحم, فقد ساقت الناس لهذا الاعتقاد الغريب واتخذت دليلاً له, ولكن تم إثبات شيء آخر فيما بعد, وهو أن الدود يتم جلبه بواسطة الذباب الحامل ليرقاته والذي يحط على اللحم. وفي الفترة التي ألف خلالها دارون كتابه "أصل الأنواع" كانت الفكرة السائدة عن البكتيريا أنها تنشأ من مواد غير حيّة, ولكن أثبتت التطورات العلمية بعد خمس سنوات فقط من تأليف الكتاب عدم صحة ما جاء فيه, وذلك عن طريق الأبحاث التي أجراها عالم الأحياء الفرنسي لويس باستور, ويلخص باستور نتائج أبحاثه كما يلي: "لقد أصبح الادعاء القائل بأن المواد غير الحيّة تستطيع أن تنشئ الحياة في مهب الريح" 0
وظل المدافعون عن نظرية التطور يكافحون لمدة طويلة ضد الأدلة العلمية التي توصل إليها باستور, ولكن العلم بتطوره عبر الزمن أثبت التعقيد الذي يتصف به تركيب الخليّة, وبالتالي استحالة ظهور مثل هذا التركيب المعقد من تلقاء نفسه.
المحاولات العقيمة في القرن العشرين
لقد كان الأخصائي الروسي في علم الأحياء أليكسندر أوبارين أول من تناول موضوع أصل الحياة في القرن العشرين وأجرى أبحاثا عديدة في ثلاثينيات القرن العشرين لإثبات أن المواد غير الحيّة تستطيع إيجاد مواد حيّة عن طريق المصادفة. ولكن أبحاثه باءت بالفشل الذريع واضطر إلى أن يعترف بمرارة قائلاً "إن أصل الخلية يُعَدُّ نقطة سوداء تبتلع نظرية التطور برمتها".
ولم ييأس باقي العلماء من دعاة التطور, واستمروا في الطريق نفسه الذي سلكه أوبارين وأجروا أبحاثهم للتوصل لأصل الحياة, وأشهر بحث أجريَ من قبل الكيميائي الأمريكي "ستانلي ميلر" سنة 1953 حيث افترض وجود مواد ذات غازات معيّنة في الغلاف الجوي في الماضي البعيد, ووضع هذه الغازات مجتمعة في مكان واحد وجهزها بالطاقة, واستطاع أن يحصل على بعض الأحماض الأمينية التي تدخل في تركيب البروتينات .
وعدّت هذه التجربة في تلك السنوات خطوة مهمة إلى الأمام, ولكن سرعان ما ثبت فشلها, لأن المواد المستخدمة في التجربة لم تكن تمثل حقيقة المواد التي كانت موجودة في الماضي السحيق, وهذا الفشل ثبت بالتأكيد في السنوات اللاحقة .
وبعد فترة صمت طويلة اضطر ميللر نفسه إلى الاعتراف بأن المواد التي استخدمها في إجراء التجربة لم تكن تمثل حقيقة المواد التي كانت توجد في الغلاف الجوي في سالف الزمان.
وباءت بالفشل كل التجارب التي أجراها الدارونيون طوال القرن العشرين, وهذه الحقيقة تناولها "جيفري بادا" الأخصائي في الكيمياء الجيولوجية في المعهد العالي في سان ديغو سيكريس في مقال نشره سنة 1998 على صفحات مجلة "الأرض" ذات التوجه الدارويني. وجاء في المقال ما يلي:
"نحن نودع القرن العشرين وما زلنا كما كنا في بدايته نواجه معضلة لم نجد لها إجابة, وهي: كيف بدأت الحياة ؟"
الطبيعة المعقدة للحيـاة
السبب الرئيسي الذي جعل نظرية التطور تتورط في هذه المتاهات أن هذا الموضوع العميق لأصل الحياة معقد للغاية. حتى للكائنات الحيّة البسيطة بشكل لا يصدقه العقل .
إن خلية الكائن الحي أعقد بكثير من جميع منتجات التكنولوجيا التي صنعها الإنسان في وقتنا الحاضر ولا يمكن إنتاج ولو خلية واحدة بتجميع مواد غير حيّة في أكبر المعامل المتطورة في العالم .
إن الشروط اللازمة لتكوين خليّة حيّة كثيرة جدّاً, لدرجة أنه لا يمكن شرحها بالاستناد على المصادفات إطلاقاً. غير أن احتمال تكوين تصادفي للبروتينات التي هي حجر الأساس للخليّة, على سبيل المثال: احتمالية تكوين بروتين متوسط له 500 حمض أميني و هي 10 قوة 950 تعد مستحيلة على أرض الواقع.
الذي يحفظ المعلومات الجينية في نواة الخليّة يعد بنكا هائلاً للمعلومات لا يمكن تصور ما فيه. فهذه المعلومات تمثل مكتبة تشتمل على تسع مئة مجلد. وكل مجلد عدد صفحاته خمس مئة صفحة.
وهناك أيضاً ازدواجية أخرى غريبة في هذه النقطة وهي أن الشريط الثاني لـDNA لا يمكن تكونه إلا ببعض البروتينات ( الأنزيمات )الخاصة. ولكن إنتاج هذه الأنزيمات يتم حسب المعلومات الموجودة في د.ن.أ فقط لارتباطها الوثيق ببعضها, فلا بد من وجودها معاً في الوقت نفسه لكي تتم الإزدواجية. فهو يؤدي إلى الوقوع في مأزق الفكرة التي تقول : إن الحياة قد وجدت من ذاتها, ويعترف بهذه الحقيقة الدارويني المعروف " ليسلي أورجيل ".
إن البروتينات والحمضيات النووية د.ن.أ / ر.ن. أ التي تمتلك مكونات غاية في التعقيد يتم تكونها في الوقت نفسه والمكان نفسه, واحتمال تكونهما مصادفة عملية غير مقبولة تماماً, فلا يمكن إنتاج أحدهما دون أن يكون الآخر موجودا, وبذلك يكون الإنسان مضطرًا إلى الوصول إلى نتيجة وهي استحالة ظهور الحياة بطرق كيميائية.
إن كان ظهور الحياة بطريق المصادفة مستحيلاً فيجب أن نعترف بخلق الحياة بشكل خارق للطبيعة, هذه الحقيقة تبطل نظرية التطور التي بنت كل مقوماتها على أساس إنكار الخلق.
الآليات الخيالية لنظرية التطور
القضية الثانية التي كانت سبباً في نسف نظرية دارون كانت تدور حول "آليات التطور"، فهذا الادعاء لم يثبت في أي مكان في دنيا العلم لعدم صحته علمياً ولعدم احتوائه على قابلية التطوير الحيوي. وحسب ادعاء دارون فإن التطور حدث نتيجة "الانتخاب الطبيعي" وأعطى أهمية استثنائية لهذا الادعاء, وهذا الاهتمام من قبله يتضح من اسم الكتاب الذي سماه "أصل الأنواع عن طريق الانتخاب الطبيعي". إن مفهوم الانتخاب الطبيعي يستند إلى مبدإ بقاء الكائنات الحيّة التي تظهر قوة وملاءمة تجاه الظروف الطبيعية. فعلى سبيل المثال: لو هدّد قطيع من الغزال من قبل الحيوانات المفترسة فإن الغزالة الأسرع في العدو هي التي تستطيع البقاء على قيد الحياة. وهكذا يبقى القطيع متألفاً من أفراد أقوياء سريعين في العدو. ولكن هذه الآلية لا تكفي أن تطور الغزال من شكل إلى آخر, كأن تحولها إلى خيول مثلاً. لهذا السبب لا يمكن تبني فكرة "الانتخاب الطبيعي" كوسيلة للتطور. وحتى دارون نفسه كان يعلم ذلك وذكره ضمن كتابه "أصل الأنواع" على النحو التالي: " طالما لم تظهر تغييرات إيجابية فإن الانتخاب الطبيعي لا يفي بالغرض المطلوب ".
تأثير لامارك
والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف كانت ستحدث هذه التغيرات الإيجابية ؟ أجاب دارون على هذا السؤال استناداً إلى أفكار من سبقوه من رجالات عصره مثل لامارك . ولامارك عالم أحياء فرنسي عاش ومات قبل دارون بسنوات كان يدّعي أن الأحياء تكتسب تغيرات معيّنة تورثها إلى الأجيال اللاحقة. وكلما تراكمت هذه التغيرات جيلاً بعد جيل أدت إلى ظهور أنواع جديدة, وحسب ادعائه فإن الزرافات نشأت من غزلان نتيجة محاولتها للتغذي على أوراق الأشجار العالية عبر أحقاب طويلة . وأعطى دارون أمثلة مشابهة في كتابه "أصل الأنواع"، فقد ادعى أن الحيتان أصلها قادم من الدببة التي كانت تتغذى على الكائنات المائية، وكانت مضطرة للنزول إلى الماء بين الحين والآخر.
إلا أن قوانين الوراثة التي اكتشفها مندل والتطور الذي طرأ على علم الجينات في القرن العشرين أدى إلى نهاية الأسطورة القائلة بانتقال الصفات المكتسبة من جيل إلى أخر، وهكذا ظلت "آلية الانتخاب الطبيعي" آلية غير ذات فائدة أو تأثير من وجهة نظر العلم الحديث.
الدارونية الحديثة والطفرات الوراثية
قام الدارونيون بتجميع جهودهم أمام المعضلات الفكرية التي واجهوها خصوصاً في ثلاثينيات القرن العشرين وساقوا نظرية جديدة أسموها بـ "نظرية التكوّن الحديث" أو ما عرف بـ "الدارونية الحديثة"، وحسب هذه النظرية الحديثة فهناك عامل آخر له تأثير تطوري إلى جانب الانتخاب الطبيعي. وهذا العامل يتلخص في حصول طفرات وراثية أو جينية تكفي سبباً لحدوث تلك التغيرات الإيجابية المطلوبة . وهذه الطفرات تحدث إما بسبب التعرض للإشعاعات أو نتيجة خطأ في الاستنساخ الوراثي للجينات .
وهذه النظرية لا زالت تدافع عن التطور لدى الأحياء تحت اسم الدارونية الحديثة. وتدّعي هذه النظرية أن الأعضاء والتراكيب الجسمية الموجودة لدى الأحياء والمعقّدة التركيب كالعين والأذن أو الكبد والجناح ...الخ لم تظهر أو تتشكل إلا بتأثير حدوث طفرات وراثية أو حدوث تغييرات في تركيب الجينات, ولكن هذا الادعاء يواجه مطباً علمياً حقيقياً, وهو أن الطفرات الوراثية دائماً تشكل عامل ضرر على الأحياء ولم تكن ذات فائدة في يوم من الأيام .
وسبب ذلك واضح جداً فإن جزيئات الـ "د.ن.أ" معقدة التركيب للغاية. وأي تغيير جزيئي عشوائي مهما كان طفيفاً لا بد أن يكون له أثر سلبي, وهذه الحقيقة العلمية يعبّر عنها ب. ج. رانكاناثان الأمريكي المتخصص في علم الجينات كما يلي: "إن الطفرات الوراثية تتسم بالصغر والعشوائية والضرر, ولا تحدث إلا نادراً وتكون غير ذات تأثير في أحسن الأحوال. إن هذه الخصائص العامة الثلاث توضح أن الطفرات لا يمكن أن تلعب دوراً في إحداث التطوّر, خصوصاً أن أي تغيير عشوائي في الجسم المعقد لا بدّ له أن يكون إما ضاراً أو غير مؤثر, فمثلاً أي تغيير عشوائي في ساعة اليد لا يؤدي إلى تطويرها, بل الاحتمال الأكبر أن يؤدي إلحاق الضرر بها أو أن يصبح غير مؤثر بالمرة."
وهذا ما حصل فعلاً, لأنه لم يثبت إلى اليوم وجود طفرة وراثية تؤدي إلى تحسين البنية الجينية للكائن الحيّ , والشواهد العلمية أثبتت ضرر جميع الطفرات الحاصلة. وهكذا يتضح أن هذه الطفرات التي سيقت باعتبارها سبباً لتطور الأحياء من قبل الدارونية الحديثة تمثل وسيلة تخريبية التأثير على الأحياء. وأفضل مثال للطفرة الوراثية الحاصلة لجسم الإنسان هو الإصابة بمرض السرطان, ولا يمكن والحال كذلك أن تصبح الطفرات الوراثية ذات التأثير الضار آلية معتمدة علمياً لتفسير عملية التطور. أما آلية الانتخاب الطبيعي فهي بدورها لا يمكن أن تكون مؤثرة لوحدها فقط حسب اعترافات دارون نفسه , وبالتالي لا يمكن أن يوجد مفهوم يدعى بـ "التطور"، أي أن عملية التطور لدى الأحياء لم تحدث على الإطلاق
سجلات المتحجرات : لا أثر للحلقات الوسطى
تُعدّ سجلات المتحجرات أفضل دليل على عدم حدوث أي من السيناريوهات التي تدعيها نظرية التطور, فهذه النظرية تدعي أن الكائنات الحيّة مختلفة الأنواع نشأ بعضها من البعض الآخر. فنوع معين من الكائنات الحية من الممكن أن يتحوّل إلى نوع آخر بمرور الزمن وبهذه الوسيلة ظهرت الأنواع المختلفة من الأنواع, وحسب النظرية فإن هذا التحول النوعي استغرق مئات الملايين من السنين واستناداً إلى هذا الادعاء يجب وجود حلقات وسطى (انتقالية ) طوال فترة حصول التحول النوعي في الأحياء .
على سبيل المثال: يجب وجود كائنات تحمل صفات مشتركة من الزواحف والأسماك ,لأنها في البداية كانت مخلوقات مائية تعيش في الماء وتحولت بالتدريج إلى زواحف,أو يفترض وجود كائنات ذات صفات مشتركة من الطيور والزواحف ,لأنها في البداية كانت زواحف ثم تحولت إلى طيور, ولكون هذه المخلوقات الافتراضية قد عاشت في فترة تحول فلا بد أن تكون ذات قصور خلقي أو مصابة بإعاقة أو تشوه ما ,ويطلق دعاة التطور على هذه الكائنات الإنتقالية أسم "الأشكال الإنتقالية".
ولو افترضنا أن هذه "الأشكال البينية" قد عاشت فعلاً في الحقب التاريخية, فلا بد أنها وجدت بأعداد كبيرة وأنواع كثيرة تقدر بالملايين بل بالمليارات, وكان لا بد أن تترك أثراً بالمتحجرات المكتشفة ,ويعبر دارون عن هذه الحقيقة في كتابه "إذا صحت نظريتي فلا بد أن تكون هذه الكائنات الحية العجيبة قد عاشت في مدة ما على سطح الأرض ...وأحسن دليل على وجودها هو اكتشاف متحجرات ضمن الحفريات .
خيبة آمال دارون
أجريت حفريات وتنقيبات كثيرة جداً منذ منتصف القرن السابع عشر وحتى الآن, ولكن لم يعثر على أي أثر لهذه "الأشكال الانتقالية"، وقد أثبتت المتحجرات التي تم الحصول عليها نتيجة الحفريات عكس ما كان يتوقعه الداروينيون, من أن جميع الأحياء بمختلف أنواعها قد ظهرت إلى الوجود فجأة وعلى أكمل صورة. وقد اعترف بهذه الحقيقة أحد غلاة الداروينية وهو ديبيك وايكر الأخصائي البريطاني في علم المتحجرات قائلاً: "إن مشكلتنا الحقيقية هي حصولنا على كائنات حية كاملة, سواء كان ذلك على مستوى الأنواع أو الأصناف عند تفحصنا للمتحجرات المكتشفة, وهذه الحالة واجهتنا دوماً دون العثور على أيّ أثر لتلك المخلوقات المتطورة تدريجياً.
أي إنّ المتحجرات تثبت لنا ظهور جميع الأحياء فجأة دون أي وجود للأشكال الانتقالية نظرياً. وهذا طبعاً عكس ما ذهب إليه دارون, وهذا تعبير عن كون هذه الكائنات الحيّة مخلوقة, لأن التفسير الوحيد لظهور كائن حي فجأة دون أن يكون له جدّ معين هو أن يكون مخلوقاً, وهذه الحقيقة قد قبلها عالم أحياء مشهور مثل دوغلاس فوتويما.
"إن الخلق والتطور مفهومان أو تفسيران سائدان في دنيا العلم لتفسير وجود الأحياء, فالأحياء إما وجدت فجأة على وجه البسيطة على أكمل صورة أو لم تكن كذلك, أي أنها ظهرت نتيجة تطورها عن أنواع أو أجداد سبقتها في الوجود. وإن كانت ظهرت فجأة وبصورة كاملة الشكل والتكوين فلا بد من قوة لا حد لها وعقل محيط بكل شيء أوجدا مثل هذه الكائنات الحيّة" .
فالمتحجرات تثبت أن الكائنات الحيّة قد ظهرت فجأة على وجه الأرض وعلى أحسن شكل وتكوين، أي إن أصل الأنواع هو الخلق وليس التطور كما كان يعتقد دارون.
أسطورة تطور الإنسان
إن من أهم الموضوعات المطروحة للنقاش ضمن نظرية التطور هو بلا شك أصل الإنسان, وفي هذا المجال تدعي الداروينية بأن الإنسان الحالي نشأ متطوراً من كائنات حية شبيهة بالقرد عاشت في الماضي السحيق, وفترة التطور بدأت قبل 4-5 ملايين سنة, وتدعي النظرية وجود بعض الأشكال الانتقالية خلال الفترة المذكورة, وحسب هذا الادعاء الخيالي هناك أربعة مجموعات رئيسية ضمن عملية تطور الإنسان وهي :
1- أوسترالوبيثيكوس
2- هوموهابيليس
3- هوموإريكتوس
4- هوموسابينس
يطلق دعاة التطور على الحد الأعلى للإنسان الحالي اسم "أوسترالوبيليكوس" أو قرد الجنوب, ولكن هذه المخلوقات ليست سوى نوع منقرض من أنواع القرود المختلفة, وقد أثبتت الأبحاث التي أجراها كل من الأمريكي البروفيسور تشارلس أوكسنارد والبريطاني اللورد سوللي زاخرمان - وكلاهما من أشهر العلماء التشريح – أنه لا علاقة البتة بين الإنسان وبين هذه القرود المنقرضة.
أطلق الداروينيون اسم "هومو" أو الإنسان على هذه القرود، وفي كافة مراحل الـ"هومو" أصبح الكائن الحي الأكثر تطوراًمن قرد الجنوب, ويتشبث الداروينيون بوضع المتحجرات الخاصة بهذه الأنواع المنقرضة كدليل على صحة نظريتهم وتأكيداً على وجود مثل هذا الجدول التطوري الخيالي، غير أن هذا القصور في التفكير اعترف به أحد دعاة نظرية التطور في القرن العشرين وهو آرنست مير قائلاً : "إن السلسلة الممتدة إلى "هومو سابينس" منقطعة الحلقات"
وهناك سلسلة يحاول الدارونيون إثبات صحتها تتكون من قرد الجنوب "اوسترالوبيثيكوس" و "هومو هابيليس" و "هومواريكتوس" و"هوموسابينس"، أي أن أقدمهم يعد جداً للذي يليه. ولكن الاكتشافات التي عثر عليها علماء المتحجرات أثبتت أن قرد الجنوب و"هومو هابيلس" و"هومو اريكتوس قد وجد في أماكن مختلفة وفي الفترة الزمنية نفسها
والأبعد من ذلك هو وجود أنواع من "هومو اريكتوس" قد عاشت حتى فترات حديثة نسبياً ووجدت جنباً إلى جنب مع "هومو سابيس" و"ثياندرتالينس" و"هوموسابينس"، أي الإنسان الحالي.
وهذه الاكتشافات أثبتت عدم صحة كون أحدهما جداً للآخر, وأمام هذا المأزق الفكري الذي واجهته نظرية داروين في التطور يقول أحد دعاتها وهو ستيفين جي كولد الأخصائي في علم المتحجرات في جامعة هارفرد ما يلي :
"إذا كانت ثلاثة أنواع شبيهة بالإنسان قد عاشت في الحقبة الزمنية نفسها, إذن ماذا حصل لشجرة أصل الإنسان ؟ الواضح أنه لا أحد من بينها يعد جداً للآخر, والأبعد من ذلك هو أنه عند إجراء مقارنة بين بعضها وبعض لم يتم التوصل من خلالها إلى أية علاقة تطورية فيما بينها.
إن اختلاق قصة خيالية عن تطور الإنسان والتأكيد عليها إعلامياً وتعليمياً والترويج لنوع منقرض من الكائن الحي نصفه قرد ونصفه الآخر إنسان هو عمل لا يستند إلى أي دليل علمي. وقد أجرى اللورد سوللي زاخرمان البريطاني أبحاثه على متحجرات قرد الجنوب لمدة 15 سنة متواصلة ، وقد توصل إلى عدم وجود أية سلسلة متصلة بين الكائنات الشبيه بالقرد وبين الإنسان واعترف بهذه النتيجة على الرغم من كونه دارويني الاتجاه.
ولكنه من جهة أخرى قام بتأليف جدول خاص بالفروع العلمية التي يعترف بها وضمنه مواقع لأمور خارجة عن نطاق العلم, وحسب جدول زاخرمان تشمل الفروع العلمية التي تستند إلى أدلة مادية علوم الفيزياء والكيمياء وتليها علوم الأحياء فالعلوم الاجتماعية وأخيراً - أي في آخر الجدول - تأتي فروع المعرفة الخارجة عن نطاق العلم. ووضع في هذا الجزء من الجدول علم تبادل الخواطر والحاسة السادسة والشعور والتحسس، وأخيرا تطور الإنسان. ويضيف زاخرمان تعليقاً على هذه المادة الأخيرة في الجدول كما يلي:
"عند انتقالنا من العلوم الماديّة إلى الفروع التي تمت بصلة إلى علم الأحياء النائي أو الاستشعار عن بعد, وحتى استنباط تاريخ الإنسان بواسطة المتحجرات, نجد أن كل شيء جائز وممكن خصوصاً بالنسبة إلى المرء المؤمن بنظرية التطور, حتى إنه يضطر أن يتقبّل الفرضيات المتضادة أو المتضاربة في آن واحد
إذن: إنّ القصة الملفقة لتطور الإنسان تمثل إيماناً أعمى من قبل بعض الناس بالتأويلات غير المنطقية لأصل بعض المتحجرات المكتشفة.
عقيدة ماديّـة
لقد استعرضنا النظرية الخاصة بالتطور, ومدى تناقضها مع الأدلة والشواهد العلمية, ومدى تناقض فكرها المتعلق بأصل الحياة مع القواعد العلمية, واستعرضنا أيضاً انعدام التأثير التطوري لكافة آليات التطور التي تدعو إليها هذه النظرية, وانعدام وجود أية آثار لمتحجرات تثبت وجود أشكال انتقالية للحياة عبر التاريخ. لهذا السبب نتوصل إلى نتيجة مفادها ضرورة التخلي عن التشبث بالنظرية التي تعد متناقضة مع قواعد العلم والعقل, وهي لا بد أن تنتهي كما انتهت نظريات أخرى عبر التاريخ والتي ادعت بعضها أن الأرض مركز الكون. ولكن الغريب أن هناك إصراراً عجيباً على التشبث بهذه النظرية في واجهة الأحداث العلمية, وهناك بعضهم يتمادى في تزمته ويتهم أي نقد للنظرية بأنه هجوم على العلم والعلماء.
والسبب يكمن في تبني بعض الجهات لهذه النظرية واستخدامها كوسيلة للتلقين الفكري, وهذه الجهات تتبنى الفكر المادي عقيدة لها, بل هي متصلة بالفكر المادي اتصالاً أعمى وتعد الداروينية خير ملاذ فكري لها لترويج فكرها المادي البحت. وأحياناً تعترف هذه الجهات بالحقيقة السابقة, كما يقول ريتشرد ليونتن أحد أشهر الباحثين في علم الجينات والذي يعمل في جامعة هارفارد, وهو من المدافعين الشرسين عن نظرية التطور، ويعد نفسه رجل علم مادي: "نحن نؤمن بالمادية, ونؤمن بأشياء مسلم بها مسبقاً, وهذا الإيمان هو الذي يجعلنا نوجد تفسيرات مادية للظواهر الدنيوية وليس قواعد العلم ومبادئه. وإيماننا المطلق بالمادية هو سبب دعمنا اللامحدود لكل الأبحاث الجارية لإيجاد تفسيرات ماديًة لجميع الظواهر التي توجد في عالمنا, ولكون المادية صحيحة مسلم بها فلا يمكن أبداً أن نسمح للتفسيرات الإلهية أن تقفز إلى واجهة الأحداث"
إن هذه الكلمات تعكس حجم النزعة التلقينية التي تتسم بها الداروينية لمجرد كونها مترابطة ترابطاً فلسفياً بالنظرية المادية. ويرى غلاة هذه النظرية أن لا شيء فوق المادة, ولهذا السبب يؤمنون بأن المواد غير الحية هي سبب وجود المواد الحيّة, أي أنّ الملايين من الأنواع المختلفة كالطيور والأسماك والزرافات والنمور والحشرات والأشجار والزهور والحيتان وحتى الإنسان ليست إلا نتاجاً للتحول الداخلي الذي طرأ على المادة كالمطر المنهمر والرعد والصواعق.
والواقع أن هذا الاعتقاد يتعارض تماماً مع قواعد العقل والعلم, إلا أن الداروينيين ما زالوا يدافعون عن آرائهم خدمة لأهدافهم التي تلخصها الكلمات التالية: "لا يمكن أبداً أن نسمح للتفسيرات الإلهية بأن تقفز إلى واجهة الأحداث"28.
وكل إنسان ينظر إلى موضوع أصل الأحياء من وجهة نظر غير مادية لا بد له أن يرى الحقيقة الساطعة كالشمس, إن جميع الكائنات الحية قد وجدت بتأثير قوّة لا متناهية وعقل لا حد له, أي أنها خلقت من قبل خالق عليم قدير أحاط علمه بكل شيء ووسعت قدرته السماوات والأرض، وهو الذي يقول للشيء كن فيكون.
( قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَلِيـمُ الحَكِيـمُ ) (البقرة : 32)
هارون يحيى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق