- بلادى توداى
- 10:06 ص
- أبحاث ودراسات
- لا توجد تعليقات
استمرار الامتحان حتى الموت
يبقى الإنسان رهن الامتحانات يكابدها حتى يوافيه الأجل. فعلى الناس أن يجعلوا كل لحظة من حياتهم منسجمة مع أوامر الله تعالى, ذاكرين جلال عظمته سبحانه ملتزمين بطاعته. وهناك أمر مهم يتعين فهمه جيدا، فلو أن كلّ من على الأرض تركوا سبيل الإيمان وكفروا بالله ما ضرّ ذلك الله تعالى مقدار ذرة، ولو أن أحدهم طيلة حياته عمل عملا صالحا، ثم تولى على عقبيه في آخر عمره ووافاه الأجل وهو على ذلك لحبط جميع عمله و لنال غضب الله عز وجلّ, فالعبرة بالخواتم.
فعلى المؤمنين أن يأخذوا حذرهم, فالشيطان عدوهم وعدو الإنسانية الأول, لن يدّخر وسعاً في استغلال أماكن ضعفهم وأوقات غفلتهم حتى لحظة رحيلهم ليغويهم عن الصراط المستقيم. ولهذا كانت لحظة الموت من أخطر اللحظات. أما أن يقول قائلٌ: أنا مؤمنٌ بالله عز وجل, وعملت ما بوسعي لنيل رضاء ربي, وقد أمنت لنفسي النجاة والخلاص، فهو في وهمٍ وغرور. والقرآن الكريم يخاطبك يا من أردتَ النجاة ألا تنقطعَ عن عبادةٍ ملؤها الخوف من الله تعالى والطمع في رحمته حتى لحظة الفراق الحاسمة :
( تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (16)) (سورة السّجدة : 16 )
وليتفكر كلّ مسلمٍ في هذا الأمر مليا ًّ:
( يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) ) (سورة آل عمران: 106 )
الذين آمنوا ثم ارتدّوا على أعقابهم
يُعتبر الإيمان من أعظم نعم الله على المؤمنين، فبه تتحقق السعادة والرضا في الدنيا والنجاة والفوز في الآخرة، لذا وجب علينا أن نُشفعَ كل نعمةٍ أسديت إلينا بالثناء على الله سبحانه، وعلينا أن نقدر نعمة الإيمان التي هي أعظم النعم. وعلى المؤمنين الذين حفظهم الله برحمة منه أن يدعوا بهذا الدعاء الذي يردده أهل الجنة
( وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمْ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (43) )( سورة الأعراف: 43 )
ويكون الثناء على الله تعالى بالتلفظ بالشكر، والقيام بالأعمال التي يُنال بها رضوان الله تعالى. وبما أن الصلاة هي شكر على نعمة الإيمان, فعلى المؤمنين أن يؤدوها بعناية واهتمام وحضور قلب اعترافاً بجميل صنع الله لهم عاملين أقصى ما بوسعهم لنيل رضاه, متبتلين له في محراب العبودية الحقّة الصادقة. وفي المقابل, لو ظنوا خطأً أن ما هم عليه من طاعة سيوصلهم بالضرورة إلى الجنة, أو لو نسوا أنهم رهن اختبار, فربما فقدوا هذه النعمة, وهيهات أن تعود إن زالت. وقد تقسو قلوبهم, كما صرّح القرآن بذلك, ثم ينكرون خالقهم عزّ وجل, وعندها يحبط كل ما قدّموه من عملٍ ويذهب هباء منثورًا, ويكون زرعهم الذي زرعوا فسادًا وبورًا. وقد أوضح الله تعالى لنا هذه الحقيقة في أكثر من آيةٍ :
(... وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) ) (سورة البقرة: 217)
( وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ (65) ) ( سورة الزمر: 65 )
( وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53) ) (سورة المائدة: 53)
وأخبرنا الله تعالى في القرآن الكريم كذلك عن بعض المؤمنين الذين ارتكسوا في إيمانهم بعد أن كانوا صالحين, وعن انحرافهم عن جادّة الحق بعد أن كانوا مهتدين.
( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) ) (سورة النساء : 137)
( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الضَّالُّونَ (90) ) سورة آل عمران: 90
ووصف حالتهم في الدار الآخرة كذلك بقوله:
( يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) ) (سورة آل عمران: 106 )
توضح لنا الآيات السابقة خطر ترك الإيمان واتباع طريق الهوى والضلال, فقد تجد أناسا يمضون شطر حياتهم مؤمنين بوجود الخالق عز وجل منسجمين مع أوامره, ثم تهزمهم النفس الأمارة مبعدة إياهم عن دين الله حتى يصلوا إلى درجة إنكار الخالق عز وجل, وقد يفوق جحودهم جحودَ الآخرين, ذلك لأنهم عرفوا الحقّ وعايشوه وفقاً لمراد الله تعالى ابتداءً, ثم ارتدّوا بعدها على أعقابهم فذهبت أعمالهم هباءً منثورا. لذا وجب على الناس ألا ينسوا ولو للحظة واحدة خضوعهم للاختبار ما بقوا على وجه الأرض, وأن الابتلاءات لا حدود لها, و إلا فالشيطان لا يكفّ عن محاولات إغوائهم عن صراط ربهم المستقيم عبر سلسلة من الوعود الزائفة والشكوك المُريبة.
أما إنكار الألوهية بعد معرفة الإيمان فهو السبيل إلى الشقاء السرمدي. فالذين نبذوا الإيمان يعيشون حياة ضنك وعذابٍ روحي إلى أن توافيهم آجالهم رغم امتلاكهم أكثر أعراض الحياة الدنيا كالثروة وأسباب الراحة. وبما أنهم عرفوا الحق فهم يحاولون جاهدين كبت أي نداءٍ منبعثٍ من أعماق ضمائرهم ليبقى إحساس الإثم يحرق أرواحهم, وهيهات أن يُقارنَ ألمٌ يعانونه في هذه الحياة مع ما سيلقونه بعد الموت :
( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَباً وَلَوْ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91) ) (سورة آل عمران : 91)
فعلى المؤمنين أن يتنبهوا ما دامت هذه الأخطار محدقة بهم، فلا يغفلوا عنها حتى اللحظة الأخيرة من آجالهم خوفاً من الارتداد على الأعقاب . فالإحساسٌ بالطمأنينة يمنع الإنسان من التزود من العمل الصالح. والاعتقاد بأن الجنة مضمونة يدفع صاحبه إلى التقهقر والتراجع. وصف القرآن الكريم ذلك بقوله :
( كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) ) ( سورة العلق : 6-7)
فاحرص أن تجعل الخطر ماثلاً بين عينيك, وقدّم من الأعمال ما يُرضي ربك عز وجل, فالرحلة مضنية والابتلاءات لا تنقطع حتى الرمق الأخير من الحياة.
الذين تخلفوا عن الجهاد وهربوا منه
هناك أناس يعيشون بإيمانٍ فطري أو بلا إيمان وكأنّ الأمور الجسام لا تعنيهم, فهم منسجمون مع مبادئ الإسلام عموماً, ولكن الله بعدله أعدّ لهم ألواناً من الابتلاءات لتظهر حقيقة معدنهم وطويتهم. فالمسلمون الذين تحمّلوا آلام الشدائد, والجوع والحاجة والمرض وفقد الممتلكات والأحباب, تقوي الابتلاءات إيمانهم وترسّخه. بينما يتقهقر الذين في قلوبهم مرض مقتربين من الكفر مع انقضاء كل دقيقة من حياتهم.
وتُبرزُ لنا هذه الحقيقة أهمية كل لحظة من حياة الإنسان, فقد يقضي بعض الناس جلّ حياتهم مؤمنين بالله تعالى, عاملين على إعلاء كلمته, مقدّمين صالح الأعمال, ولكن إذا توقفوا عن الأداء الأمثل انسجاماً مع فطرتهم السليمة, يطول عليهم الأمد, وتقسو قلوبهم وقد يفقدون ملكة التمييز بين الخير والشّر, وقد تطغى مشاغل الحياة وشؤونها على إحساسهم بضرورة متابعة العمل لنيل رضا الله عز وجل, وقد يتفاقم وضعهم فينحدرون سريعاً نحو الجحود والكفر.
وقد وصفت لنا العديد من الآيات جهاد الأنبياء عليهم السلام لحماية عامة المسلمين من بطش مجتمعاتهم وصوناً لدين الله عز وجل, وكان الجهاد يمثل حينها بُعداً تعبديّاً بالغ الأهمية. فرأينا كيف دخل محمد صلى الله عليه وسلم في صراع مريرٍ مع ذلك المجتمع المشرك, وكل مواجهة كانت تتم بأمرٍ من الله سبحانه, ثم يتحمّل عليه الصلاة والسلام تبعة مسؤوليتها. وسيطبع الله تعالى على قلوب أولئك النفر الذين حاولوا التملّص من مسؤولياتهم تجاه دينهم, لأن هذه الرغبة في الفرار تدلّ على حقيقة ضعف صلتهم بالإيمان.
ويمضي كفاح المؤمنين في زماننا هذا ضد الكفرة في ميدان الفكر, فالمطلوب من المؤمنين التعمق في العلم والبحث لدحض جميع الشبهات التي يسعى الملحدون إلى إلصاقها بالدين كوسيلة لإنكار وجود الخالق عز وجل. فكل مسلم يتحمل اليوم جزءا من المسؤولية, ولا يمكن لأي واحد اليوم أن ينأى بنفسه بعيدا وكأنّ الأمر لا يعنيه، ولا حتى أن يقف موقف الحياد. فهؤلاء الذين أبوا تحمّل المسؤولية وصفهم القرآن الكريم بأن قلوبهم قاسية: ( وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87) ) ( سورة التوبة: 86-87 ) .
وهناك نموذج آخر ممن قدّموا المعاذير عند مواجهة المشقات وأخمدوا نور الإيمان في قلوبهم وهم يحاولون الفرار من مسؤولياتهم الجهادية :
( لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمْ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوْ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) ) ( سورة التوبة : 42)
تتجلى في هذه الأمثلة المُستقاة من عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم وعهود من سبقوه من الأنبياء عليهم السلام أجمعين حقيقة مهمة مفادها أن سنّة الله تعالى في الاختبارات ماضية دون توقف ضمن سلسلة من الابتلاءات ليميز أهل الحقّ من المؤمنين عن أهل الضلال من المفترين. فيظهر ثبات وعزيمة المؤمنين أوقات الشدائد, ويرتكس أولئك الذين خارت قواهم مبتعدين عن جادة الحق والدين. وحدث على عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم عندما كانت المعارك محتدمة بين المسلمين والكفرة أن أظهر بعض المسلمين خوراً وضعفاً, واجتاحتهم الرّيبُ المفزعة, ظانين بالله تعالى غير الحق, ويسرع الشيطان منتهزاً فرصة ضعفهم ليبعدهم عن سبيل الحق:
( إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) ) (سورة آل عمران: 155 )
أبرزت هذه الواقعة درساً عظيماً للمؤمنين, حيث بيّن الله تعالى ضرورة تعرّض الناس للابتلاءات ليميز الخبيث من الطيب, وما من طريقة لتحمّل مشقتها سوى الإيمان الصادق الراسخ بالله سبحانه وتعالى. ومن رحمة الله بعباده المؤمنين الصادقين أنه يثبّتُ أقدامهم ويُنزلُ السكينة والرضا في قلوبهم في فترات الشدائد. ومن الضروري أن يبقى هذا الاختبار ماثلاً في ذاكرتنا, تجري سنّته على الناس جميعا ليتمايز الخبيث من الطيب:
( أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) ) (سورة العنكبوت: 2-3)
هارون يحيى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق