- بلادى توداى
- 9:49 ص
- أبحاث ودراسات
- لا توجد تعليقات
موقف غير المؤمنين إزاء الصعاب
تتغير أخلاق المسلم, كما أوضحنا من قبل, مهما تلونت أحوال عالمه الباطن. أما مرضى القلوب والذين لا إيمان لهم فهم غير قادرين على تحمّل المشقات ومكابدتها, فمحرك صبرهم متعطل, ومرجل إيمانهم لا حرارة فيه, وعليه تراهم أكثر عنتاً عند مواجهة الشدائد, وقد يستشيطون غضبا وحنقا لأتفه الأسباب وتثور عدوانيتهم، وربما لجأوا إلى العنف. وقد يتظاهرون في الظروف العادية بالمرح والطمأنينة, ولكن سرعان ما تتملكهم العدوانية والفظاظة عندما يعرض عليهم المؤمنون حقائق الإيمان وحقائق الأخلاق القرآنية, فتثور عداوتهم كاشفين اللثام عن دمامة وجوههم وسوء أخلاقهم.
وأكثر ما يكشف معدن شخصيتهم فقدانهم فرص العمل أو تعرضهم لمرض أو حادثة أو مصيبة أو بلاء. فلو فقدوا السكن لفترة قصيرة مثلاً أو حرموا النوم أو قضّت المشكلات مضاجعهم, فسرعان ما يصبحون فريسة للقنوط. ويصف الله تعالى لنا هذه الشخصية الجاحدة التي غالباً ما تظهر عند الشدائد فيقول:
( فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) )) سورة (الفجر: 15-16)
( فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) )) سورة (الفجر: 15-16)
وهكذا, يبتلي الله تعالى الكافرين بالمنع والعطاء وفقا لإرادته سبحانه. فيبقى المؤمنون بكامل ثقتهم بربهم وامتنانهم له عز وجل. وينقلب الكفرة على أعقابهم جاحدين نعمة الله تعالى عليهم منكرين جميل صنعه, فيخسرون الدنيا والآخرة. وقد تأتي ردة فعلهم على شكل اكتئاب حادٍ يدفعهم للانتحار أو اللجوء إلى المسكرات أو المخدرات. فهم لا يفهمون هذه المصاعب فهما إيجابيا، ولا يقدرون الخير الذي يمكن أن تنطوي عليه. ويشدد الله تعالى عليهم وطأة البلاء جزاءً وفاقا:
( وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) )( سورة الزخرف: 48)
وبمعنى آخر, يسلط المولى عز وجل عليهم أوقاتاً عصيبة عسى أن يعودوا لطريق الحق فيتوبون ويلزمون جادة الإيمان, ولكن غالباً ما تجعل هذه المنغصات قلوبهم أكثر قسوة فيزدادون بعداً عن خالقهم عز وجل وإنكاراً لجلال عظمته سبحانه : ( فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) )( سورة الأنعام: 43-44).
الحالة النفسية لأولئك الذين أخلدوا إلى الأرض
إنّ فهم المسلمين لسرّ الاختبارات التي يمرون بها يمُدّهم بالرضا والطمأنينة و يجعلهم ينعمون بثمرات صبرهم واحتسابهم. أما الذين أخلدوا إلى الأرض ظانين أنّ الحياة الدنيا دار مقام وبقاء فإنهم يَشقَونَ بما يعانون من بؤس وآلام وغم وأنانية ورغبات دنيوية. ويداخل هذا الألم جميع تفاصيل حياتهم, ويتسمُ كل ما يفعلونه بالعقم والكدر وانعدام القدرة على معرفة الخير, والذهول عمّا يمكن أن تجلبه الأخلاق الحميدة من بهجة وصلاح. فشخصياتهم غير سوية, ومواقفهم غير موزونة بموازين الخير والشر، وأكبر همهم التفكير الدائم في مصالحهم الذاتية ظانين أن بخلهم وأنانيتهم تجلب لهم منفعة دون رؤية ضرر هذا السلوك على الناس الآخرين. وكل من يحذو حذوهم يلحق به ما لحق بهم في الدنيا والآخرة . لقد خسر الذين كفروا نعيم الجنّة, وأخطر منه خسرانهم رضوان الله تعالى ورحمته.
وقد سَمّى القرآن هذه الحالة بـ "الخسران المبين":
(هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً (39) )( سورة فاطر: 39)
ويستوعب أهل الإيمان هذه الدروس المؤثّرة، وهم يراقبون حال المنكرين والجاحدين. ذلك أنه لا يمكن غض الطرف عن إنسانٍ يسرق مال يتيمٍ أو ينهب أملاك شخصٍ آخر ليتمتع بها. وهذا القرآن الكريم يقدم وصفا لهم: ( فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125) ) (سورة الأنعام: 125)
فمثل هذا السلوك قد لا يُلاحظ بشكل واضح جلي ، ولكن يمكن لأهل البصيرة والخشية من الله أن يتبينوا هذه الصفات المنبوذة، فأولئك الناس أقلّ الإنسانية منزلة رغم امتلاكهم المال والمتاع, فهم لا يحضّون على طعام المسكين رغم حاجته, ولو حدث وفعل شيئا من الخير فعن مضض: ( أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) ) (سورة الماعون: 1-3)
وكثيراً ما نجد صوراً لمثل هؤلاء الذين أثرَوا عبر وسائلٍ لا أخلاقية وغير مشروعة, كأن تكون أموالهم قد اكتسبت عن طريق الرّشوة أو من خلال معاملات فاسدة الأخرى, فيجمعون الفوائد الظالمة, ويغتصبون مال اليتيم, ولا يُسدون لفقيرٍ أو صاحب حاجةٍ معروفا، وقد يسعون في إذلال الناس وسلبهم كرامتهم. وعندما يريدون فعل شيء من الخير تنعكس عليه ظلمة قلوبهم فتفسده وتحبطه، وهذه هي أمارات الذلّة في أجل صورها. وقد استخدم الباري سبحانه كلمة "الذلّة" ليصف لنا مهانتهم وخذلانهم:
( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنْ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27) ) (سورة يونس: 26-27).
إن تحلي المؤمنين بأسمى الأخلاق وأرفعها يزيدهم نضارة وبهاءً, بينما يُنزع نور الإيمان من وجوه المنكرين الجاحدين. وطبيعي أن يحاسب كل فريق على ما قدمت يداه بعد المرور بتجربة هذه الحياة، فيجازى المحسنون ويعاقب المفسدون. وكم حاول الكفّار بأساليبهم الماكرة ومواقفهم الآثمة أن يصدّوا المؤمنين عن سبيل الهدى! ولو حلّ مثلاً أحد الناس ضيفاً على بيت واحدٍ من هؤلاء الجاحدين, فإنّ أعمال المُضيف هذا لن تفلح في بعث الراحة في نفس المؤمن مهما قدم من صنوف الطعام والمآكل, فكيف لو عرف الضّيف أنّ حياة هذا الرّجل تمثلُ سلسلة من الانتهاكات لأحكام الله وأوامره.
إن الظلم الذي يوقعه باليتيم والفقير يلوّث الطعام الذي يقدّمه لضيفه. ويفضّل المؤمنون حساءً بسيطاً أعدّ من مالٍ حلالٍ على وجبة دسمةٍ أعدّت من مالٍ حرام. وبالمثل لو دُعيَ ضيفٌ للجلوس على أريكةٍ وقد عرف أنها اشتريت من مالٍ مشبوه فإنه يثقل عليه الجلوس عليها، بل ويشعر أن كل ما في البيت هو ثمرة استغلال للضعفاء ونهب للمال الحرام. ولو بدا كل شيءٍ في الظاهر نظيفاً أنيقاً, فلن يخطئ أنف الضيف أن يشمّ رائحة عفنة متفشية في المكان تعكس الخواء الروحي لصاحبه وتقلق الضيف وتقضّ مضجعه. سيتعرّض آكلو السحت هؤلاء و سمّاعو البهتان لمهانة دنيوية وأخروية يراها الآخرون بادية عليهم وفق ما أنبأنا به القرآن الكريم:
(...وَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) ) ( سورة المائدة: 41)
فمثل هؤلاء لا يذوقون للسعادة طعماً, ولا يسعد بهم مَنْْ حولهم, لإصرارهم على ارتكاب المنكر والمحرم من الأعمال, ويتجرّدون من فضيلة الحياء لإصرارهم على انتهاك حرمات الله عز وجل. واليوم ترى أناسا كثيرين من هؤلاء منغمسين في الرذيلة والفساد مستفيدين من شيوعها وكثرتها. فهؤلاء القوم انخلعوا من ربقة الإنسانية ووصلوا إلى نقطة انعدام الشرف والكرامة. وأخطر شيء أن الذين احترفوا الفاحشة من الجنسين يحاولون جاهدين أن يجرّوا غيرهم إلى حمأتها, ولكنّ الله تعالى لهم بالمرصاد، إذ يبتليهم بالأمراض التي لم تكن في أصلابهم والمصائب والحرمان والمهانة والاحتقار, وتبدو خسّتهم واضحة للآخرين.
ويعطي الله تعالى وصفاً دقيقاً لحالة هؤلاء الأشقياء في النار, يقدّمه للمؤمنين الذين عانوا ابتلاءات الحياة الدنيا وعرفوا أسرارها, فتشرق وجوههم نضارةً لعظم ما ينتظرهم من رضوان الله تعالى في الآخرة . أما أولئك الأشقياء الذين يعانون الآن الخسارة الأبدية وقد اعتزلهم أقرب الناس إليهم, فكل ما يستطيعون فعله, وقد أحاطت النيران بهم, نظرات ملؤها المهانة وهم يطلعون على المؤمنين وقد نالوا من نعم الله في دار كرامته بما لا نهاية لفضله ومدده:
( وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنْ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) ) ( سورة الشورى : 45)
هارون يحيى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق