- بلادى توداى
- 4:17 ص
- أبحاث ودراسات
- لا توجد تعليقات
المسلم أوقات الشدائد (4)
طاعة أوامر الله تعالى في أوقات الشدائد أيضا
طاعة أوامر الله تعالى في أوقات الشدائد أيضا
تمثل استجابة المسلمين لأوامر الله سبحانه وتوصياته واحدة من أنبل ما يميز المؤمنين من الفضائل. فهم لا ينتهكون شيئاً مما حرّمه الله تعالى عليهم مهما بلغت حاجتهم أو زادت وطأة كربتهم, ولن يعرّضوا أمانتهم وإخلاصهم للشك والريبة عند تعرّضهم لمرضٍ أو ضرورة, أو فشلٍ أو اضطهاد.
ويودّ الشيطان, كما نبهنا من قبل، أن يضلّ الناسَ عن سبيل ربهم القويم ليحملهم على سماع نداء نفوسهم الأمارة بالسوء, فيحثهم أن ينتهكوا ما حرّم الله تعالى ويحجب عنهم سُبل هداية ربهم عز وجلّ وتشاركه النفس الأمارة لتحقيق الهدف نفسه موسوسة ومزينة لهم ارتكاب أسفل الأعمال وأرذلها , محاولةً على سبيل المثال منع الناس من الاستيقاظ لأداء صلواتهم, مزينة لهم النوم والاسترخاء, وغير ذلك من السلوك الذي فيه معصية لله تعالى. ويحدّثهم الشيطان حديثا يزين لهم فيه حبّ الراحة ويحول بينهم وبين القيام لأداء الطاعة.
ولكن المؤمنين لا يصغون لهذا النداء السلبي, فينهضون كل صباحٍ بنشاطٍ وحماس لأداء صلواتهم, متيقنين أن هذه هي السبيل القويم نحو الإحسان والخلاص الحقيقي. ولنأخذ مثالا على ذلك أيضا موضوع الصيام, فنداء النفس والشيطان يريد أن يقنع الإنسان بصعوبة الصّيام رغم أنه فرض من عند الله تعالى، فيصور للإنسان حالة الجوع والعطش ومشقتهما. بيد أن المؤمنين يصبرون ويثبتون على الطاعة بعزيمة راسخة رغم ضغوط النفس الأمارة المستمرة, لأنهم يتوقون إلى نيل الثواب من عند خالقهم على الجوع والعطش والتعب الذي يتجشمونه قياما بالطّاعة وتلبية لنداء الإيمان ونفوسهم مفعمة بالراحة والسرور.
وبالصورة نفسها تزين النفس الأمارة المالَ غير المشروع ليبدو حلالاً, وذلك أن أكثر الناس يفعلون ذلك, ولكن المؤمنين المخلصين الصادقين لا يسمحون لأنفسهم أن يسقطوا هذه السقطة المُريعة رغم حاجتهم المُلحّة أحياناً للمال وإصرار النفس الأمارة على فعل ذلك. فلا يقربونَ مالاً حراماً, ولا يتناولون طعاماً مصدره من الحرام مهما بلغت بهم الحاجة. وهم لا يبررون لأنفسهم فعل شيء من ذلك بحجة الخصاصة، وإنما ينأون بأنفسهم عن كل ذلك لأنهم يدركون أهمية تجنب محارم الله عز وجل، وهذا الإدراك نابع من حسٍ إيماني داخلي عميق وخشية خالصة من الله عز وجلّ.
ويخاطب القرآن الكريم المسلمين التوّاقين للعمل بمقتضى ما يُرضي ربهم عزّ وجل, فيسابق بعضهم بعضاً مسرعين نحو عمل الخير مجتهدين للوصول إلى جنّة ربهم الموعودة, باذلين ما بوسعهم صابرين على الشدائد . وقد يكون لهم إخوة مسلمون أصحابُ حاجةٍ, على سبيل المثالِ, فينهضون صبيحة يومٍ عزّ نومُهُ محاولين أن يُلبوا كل حاجاتهم وقد لا يعلم أصحاب الحاجة مَنْ مِنَ الناس أسدى إليهم صنائعَ المعروفِ تلك. وقد فعلَ أولئك ما فعلوا وهم لا يودّون إشهار ما عملوا كي لا يسببوا أي إحراج لإخوانهم, تملأ قلوبهم سعادة عميقة لتطبيقهم مُثُلَ القرآن، وقد وجدوا فيه الأسلوبَ الأمثل البعيد عن كل رياء:
( وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) ) ( سورة الحجرات7-8 ).
ولكن يحاولُ الشيطان, رغم كل شيء, بكافة السُبُلِ أن يُلبسَ غيرَ الشرعي منَ الأعمالِ لباس الشرعيةِ ويدللُ على صحة ما يذهب إليه أنّ غالبية الناس هم على نهج ما يوحي به , فيتداول كثيرٌ من الناس المال الحرام غير آبهين كونه حلالا أو حراما متجاوزين تعاليم القرآن ومبادئه، وهو كذلك يحاول إقناعنا أنّ ما تفعله الأغلبية هو عين الصواب. بيد أن القرآن الكريم ينبهنا إلى شيء مهمّ, إذ أنّ أولئك الذين يرتكبون الآثام دونما اعتبار لأي قيمة ليسوا حقيقة على صراط ربهم المستقيم ولو كانوا هم الأكثرية من الناس: ( وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) ) سورة الأنعام: 116.
ويُعلمنا الله عز وجل من جهة ثانية أن قليلاً من الناس يتمثّلون حقيقة الإيمان ولكن الأكثرية ليسوا على صراط ربهم القويم, ولهذا لا يقوى الشيطان على خداع المؤمنين, بل غالباً ما يكون تأثيره على ضِعافِ الإيمان ومن ملأت الريبة عقولهم رافضين فكرة الإيمان بالله تعالى.
تنبع صلابة موقف المؤمنين المخلصين من إيمانهم العميق بالله عز وجل وما يجلبه هذا اليقين من قوة ثباتٍ على الحق بالإضافة إلى سلوكهم الأخلاقي السامي، فالمؤمنون يعرفون أن العمل الصالح يقفُ سداً منيعاً أمام تلبيسات الشيطان ووساوس النفس الأمارة بالسّوء.
فعندما يتحلى المؤمن بشيم الكرم والولاء والصبر والإخلاص وغيرها من القيم الحميدة الأخرى, تكون النفس الأمارة في أسوإ حالاتها, وتكون نتيجة هذه الأعمال الطيبة لذة روحية وراحة بدنية يجدها المؤمن في نفسه. ومن الأجدى أن نعيش حياتنا في هذه الدنيا وفي الآخرة في حالة من القناعة والطهر, من أن نقتنصَ كل شهوات الدنيا وما يُرضي النفس الأمّارة. فالذين أبَوا سماع نداء النفس الأمارة لإقامة علاقاتٍ غير مشروعة وفضّلوا انتظار جزاء ربهم العظيم في الآخرة سينعمون في هذه الدنيا بشرفٍ وعزّ كبيرين. أما أولئك المؤمنون الذين تعبوا من اجل إراحة الآخرين وجاعوا من أجل إطعام غيرهم واستهانوا بالمشقات والمتاعب في سبيل دينهم فإن قلوبهم تكون مفعمة بالطمأنينة طمعا في رضاء ربهم عنهم.
وقد امتدح الله تعالى في كتابه العزيز المؤمنين الذين يتحلون بهذه الشمائل الأخلاقية الرفيعة, ونالوا كذلك محبة الناس واحترامهم. وسينال- هؤلاء الذين يعملون لوجه الله تعالى مواجهين الصعاب بسرورٍ ورضا, يعملون بثبات لا يكلّ لقضيتهم العادلة دون خوف أو وجل, متقبلين طواعية تقديم النفس والنفيس من أجل قضيتهم. ويذكر الله تعالى في كتابه الكريم مَنْ التزموا بطاعة فكان نصيبهم الفوز :
( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) ) ( سورة الأنبياء : 101).
أخوة المؤمنين الحقيقية أوقات الشدة
"عند الصّعاب يُفتقدُ الأصحاب"، هذا مثلٌ سائد يعبّر تعبيراً صادقاً عن الفكرة الشائعة بندرة وجود الصّديق المخلص عند الحاجة إليه. ومع ذلك, فإنّ قيمة الوفاء والإخلاص ذات أهمية بالغة في حياة الناس خاصةً عند مواجهة شدّة أو مرضٍ, إذ يكونون في أمس الحاجة لدعم معنوي من صديق مخلص. إنّ الصّداقة في المجتمعات الغربية اللاّدينية مبنية على الانتهازية, فالناس هناك قليلا ما يجدون الصّديق المخلص خاصة عند تعرضهم لأوضاع حرجة, فيتكشف لهم الوجه الحقيقي لمن كانوا يعتبرونه دائماً صديقاً وفياً. بل ربما يزيدهم ذلك الصديق المفترضُ شدّة وعنتاً أوقات ضيقهم. وهم يشكُون وتعلوا أصواتهم بطلب النجدة ولكن لا حياة لمن تنادي.
وخذ مثال الرجل الذي يقود سيارة فارهة, ويأكل في أفخم المطاعم وله عدد كبير من الأصدقاء, افترض معي أنه فقد عمله وبقي على مرتبه البسيط, كيف سيكون موقف من تربطه بهم علاقة الصداقة ؟ هل سيبدون له نفس مشاعر المودّة التي كانوا يبدونها له عندما كان ثرياً ؟ هل سيكنّونَ له نفس التقدير والاحترام الذي كانوا يظهرونه له عندما كان يرتدي أفخر الثياب ويقود أفخم السيارات؟ كيف سيعاملونه لو لبس رثّ الثياب ولم يعد ينفق من ماله عليهم أو يدعوهم لوجبات العشاء كما عوّدهم فيما مضى ؟ من الواضح أنه يخسر ولاءهم ولن يحوز انتباههم مرة أخرى. إنّ كل من ظنهم أصدقاءه سيولونه ظهورهم, وربما يتظاهرون بعدم رؤيته عند لقائه, هذا إن لم يهزؤوا منه. إن حقيقة الشخص باقية لم تتغيّر لكن الذي تبدّل هو مظهره الخارجي, ولأن المظاهر الخارجية هي موضع اهتمام أصدقائه السابقين فقد هجروه في لحظة تاركين إياه وحيداً.
وخذ مثالاً آخر, زوجان تعاهدا منذ بداية حياتهما الزوجية أن يقف كل منهما إلى جانب الآخر في أوقات الشدّة والرّخاء, ولكن ما أن تُصاب الزوجة بمكروه كالشلل النصفي مثلاً إثر حادثٍ - لم تعد تقوى معه على السير أو عمل أيّ شيء بمفردها - إلا ويتبدّل الموقف, لكن ربما بقي الزوج معها لبرهة يسيرة, وحين يُدركُ الزوج أن حالتها هذه مزمنة ولا فائدة مرجوة منها, ينقلب كل شيء رأساً على عقب. يتبين لنا من هذا المثال مفهوم الكافرين للوفاء والإخلاص والصداقة, فعندما تتعطل المصلحة تنقطع أواصر المحبة. أما الذين لم يهجروا زوجاتهم في مثل هذه الظروف العصيبة فلاعتبار ما يمكن أن يُقالُ عنهم من قِبلِ أصدقائهم وليس لاعتبار المحبة للزوجة المقعدة أو الرأفة بها. ففي الظاهر هم مخلصون أوفياء, ولكن في الحقيقة لا يشعرون أبداً بصدق الرأفة والحنان.
ومعاملة الشباب لكبار السن من آبائهم واقعٌ آخر يكون أشد وضوحاً في المجتمعات الكافرة البعيدة كل البعد عن أخلاقيات القرآن الكريم ومثُلهِ. فقد لبّى هؤلاء الآباء لسنين عديدة متطلبات أبنائهم, وما إن يتقدم بهم السن وتضعف قواهم البدنية حتى يتنكرَ الأبناءُ لما يُفترضُ أن يبذلوه من وفاءٍ وعناية بآبائهم, فيشعر الأبناء أن آباءهم يشكلون قيوداً عليهم ويكون الحل أخيرًا بوضعهم في بيوت العجزة.
يبدي المسلمون الوفاء الصادق في معاملة أفراد عائلاتهم في جميع الظروف مهما تباينت أشكالها, فربما أطعموا آباءهم وهم أنفسهم لا يأكلون, ويتفانون في تلبية حاجاتهم. وقد وصف القرآن الكريم الطريقة المُثلى التي ينبغي على المسلمين اتباعها في معاملة آبائهم :
( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً (23) ) (سورة الإسراء : 23).
بين المسلمين الأوفياء فقط تجد هذه الأخوة الحقيقية, والوفاء الصادق والإخلاص الحق. فهم مناصرون لإخوانهم متكافلون معهم وملتزمون أخلاقياً بمراعاة شؤونهم حتّى في ساعة العسرة, باذلين أقصى ما بوسعهم لتلبية حاجات إخوانهم قبل حاجاتهم الشخصية شاعرين بسعادة عارمة لما يقدمونه من تضحية. فعندما يعاني إخوانهم مرضاً أو يواجهون أزمة مالية تراهم يسارعون بتقديم ما عندهم قبل أن يُطلبَ منهم ذلك, ولو حُرموا النوم أو الطعام فلن يدعوا إخوانهم في عسرة ومشقّة. ويخبرنا القرآن الكريم عن هؤلاء الأخوة الصادقين:
( إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55))( سورة المائدة : 155 )
( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) ) ( سورة الأنفال : 72).
إن مع العسر يسـرا
نحن نذكر المصاعب والمشقات التي يمتحن الله تعالى بها عباده المؤمنين الذين يُظهرون أرفع سلوك أخلاقي وسط الظروف الحالكة. وعرضنا كذلك مشاعر السعادة والحبّ والتقدير التي يتحلون بها انسجاما مع سمو أخلاقهم, مدركين أن الله تعالى يُنزّل مع كل اختبارٍ يمتحن به عباده رضاً وسكينة تُريح المؤمنين الصادقين وتطمئنهم. وقد ذكر هذا الوعد في القرآن الكريم :
( فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) ) ( سورة الشرح : 5- 6 )
(...يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ...(185) ) سورة البقرة: 185
( وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) ) ( سورة الأعلى : 8)
( ... وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5) ) ( سورة الطلاق: 4-5 )
( لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7) ) (سورة الطلاق: 7 )
(فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) ) ( سورة الليل : 5-11 )
فالله تعالى ينزّل سكينته, وفق هذا النسق القرآني, على المؤمنين العاملين أثناء معاناتهم الشداشد والصّعاب, مادّاً إياهم بالعون من خزائن رحمته سبحانه, تحملُ مدده إليهم ملائكة كرامٌ, زافين لهم أسعد البشائر الربانية :
( وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) ) ( سورة آل عمران: 123-127 )
والله تعالى يدافع عن الذين آمنوا, وتنتصر لهم الملائكة, بجنودٍ لم يروها ليبقوا ثابتين بين شعوري الأمن والرضا. ويصف القرآن الكريم في آية من سورة التوبة التأييد الإلهي للنبي صلى الله عليه وسلم في إحدى المواقف العصيبة فيقول :
( إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) ) ( سورة التوبة: 40)
كما رأينا في الآية السابقة, كل فترة عصيبة كان يتبعها إحساس عميق بقرب الفرج وزوال الشدة. والمؤمنون يعملون يدا واحدةٍ, مدركين أن ما يمرُّ بهم من أحداثٍ ينطوي على اختبارٍ قد أعدّ لهم, مقدرين ضرورة تهيئة أنفسهم لحياة الآخرة الخالدة, وهو ما يمدهم بإحساسٍ لا حدّ له من الطمأنينة عند مواجهة الابتلاءات, متلقين من الله سبحانه أعظم البشائر وأسعدها. وقد شهدنا مصداق ذلك في حياة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته المؤمنين حيث أعقب صبرهم واحتسابهم النصرُ المبين. وتقدّم سورة يوسف عليه السلام تمثيلاً عملياً لمثل هذه البشائر الربانية الصادقة؛
فقد ألقاه إخوته في الجبّ طفلاً صغيراً, وباعه الذي انتشله من الجب عبداً لعزيز مصر, ثم اتّهمَ بالتحرش من قِبل امرأة العزيز ظلماً وجورا, فأودع السجن وقاسى ويلاته دون أن يساوم على أخلاقه ومُثله, وكان يهرع لباب الله عز وجل عند كل ملمّة تعتريه, فيشعر بإيجابية كل ما يمر به من أحداث, حتى أصبح مضرب مثلٍ يحتذي به المؤمنون لكثرة طاعته وثقته بالله تعالى وسط خضمّ من المصائب والبلايا. وجاء إطلاق سراحه من سجنه مكافأة إلهية، وشهادة على حُسن صنيعه وشدة قربه من ربه عز وجل, وظهر إحسان الله له حين أُسند إليه أخطر منصبين في الدولة, القوّة والثروة. وشاءت الإرادة الربانية أن تكون حياة يوسف عليه السلام محطّ العناية الإلهية ليكون مثلاً يحتذي به المؤمنون, ومرجعاً صادقاً لتحقيق وعد الله لعباده المخلصين, يتلمّسه المؤمنون الصابرون الواثقون بربهم عز وجل وقت الشدائد بقرب راحتهم وفرجهم :
(... وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3)) ( سورة الطلاق : 2-3)
ويمتحن الله عباده, كما أوضح المثال السابق, في أوقات مختلفة بالشدائد ليبقى المؤمنون في محراب عبوديتهم مذعنين لربهم يملأ قلوبهم الرضا فيرتفعون في مدارج الكمال, موقنين من نيل جزائهم أضعافاً مضاعفة عن كلّ ما قاسوه من معاناة وتحلّوا به من أخلاق رفيعة في جميع المواقف العصيبة, والتضحية بالنفس والصبر والإذعان لقضاء الله فيهم. وربّ دقائق من الشقاء تحملوا عناءها في الدنيا تعود عليهم بملايين السنين من نعيم الجنة. وهكذا يقضي المؤمنون الواثقون بوعد الله تعالى حياتهم بأشواق عارمة وآمال متوثبة لنعيم سرمدي لا ينقطع مدده. ويصف الله عز وجل حالة المؤمنين الصادقين بقوله :
( وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً (74) أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً (76) ) ( سورة الفرقان: 72-76 )
( رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38) )) ( سورة النور: 37-38 )
هارون يحيى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق