- بلادى توداى
- 3:56 ص
- أبحاث ودراسات ، تحليلات هامة
- لا توجد تعليقات
د.علي الصلابي- إسماعيل القريتلي عهد أبي بكر الصديق
أنهينا في المقالين السابقين الحديث عن صحيفة المدينة التي كتبت بإشراف الرسول صلى الله عليه وسلم، لينظم بها العلاقة بين سكان المدينة، مبينا فيها الحقوق والواجبات. وفي هذه المقالة والتي تليها نستعرض التطبيقات والمفاهيم الدستورية في عهد الصديق رضى الله عنه.
جسد اختيار أبي بكر رضي الله عنه للخلافة أول تجربة للشورى في التاريخ الإسلامي بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ودلت مناقشات سقيفة بني ساعدة على عدم وجود أي توجيه نبوي بتحديد من سيخلفه (1). وبالرغم من تفصيل القرآن الكريم والسنة النبوية للكثير من الأحكام الخاصة والشخصية، وما يتعلق بالعلاقات الأسرية، والحقوق والواجبات الخاصة بالأفراد إلا أن الأمر لم يكن كذلك في مسألة اختيار الحكومة ورأس الدولة وشكل نظام الحكم.
انعقاد الشورى في سقيفة بني ساعدة وحصول البيعة الخاصة:
لقد ظهرت ثمرة التربية السياسية والتدريب النبوي للصحابة الكرام على مفاهيم الشورى والحرية في انشغالهم - بعد استجماع أمرهم من صدمة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم- بالبحث عن حلول أفضل لإدارة الدولة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. وبدأت التجربة بأن تجمع شيوخ ونقباء المسلمين بأسلوب مدني وحضاري في سقيفة بني ساعدة بالمدينة المنورة، ولم تكن في الاجتماع أو حوله أي مظاهر للقوة واستخدامها، فقد كان قصد الصحابة هو الحفاظ على استقرار المجتمع والدولة معا.
وفي السقيفة أنشأ الصحابة الكرام حوارا طرحت فيه الآراء حول من سيكون قائد المسلمين القادم، وتواصل النقاش، واحتدم في بعض أحيانه، وبرزت أثناء الحوار اتجاهات دلت جميعها على أن الصحابة لم يكونوا يملكون نصا يحدد من يخلف وكيف سيخلف. وبعد أن عبر كل عن رأيه، انتهى النقاش إلى اختيار أبي بكر رضي الله عنه بعد أن رشحه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وتمت مبايعته البيعة الخاصة من قبل أهل السقيفة وفيها تحصل على أصوات الحاضرين لقيادة المسلمين للمرحلة قادمة.
الييعة العامة (الاستفتاء العام) وخطاب التولي.
بدأ الصحابة تنفيذ الإجراءات الخاصة بتنصيب أبي بكر رضي الله عنه في البيعة العامة (وهي أقرب إلى آلية الاستفتاء بلغة عصرنا) بمسجد المدينة وبعد أخذ البيعة والثقة من عموم المسلمين في المدينة قام أبو بكر خطيبا في الناس فقال:
1- أما بعد, أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم،
2- فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني،
3- الصدق أمانة والكذب خيانة،
4- والضعيف فيكم قوي عندي حتى أرجع عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله،
5- لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل،
6- ولا تشيع الفاحشة في قومٍ إلا عمّهم الله بالبلاء،
7- أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.
مما تضمنه الخطاب:
1- اختيار بغير عهد ولا نص
أكد الصديق رضي الله عنه في أول خطبة له بعد اختياره رئيسا للمسلمين على أن توليه جاء بالاختيار، وليس من قبيل الوصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر الذي يؤكد أن الأمة هي مصدر السلطات، وأن الحاكم منصبه دنيوي لا ديني وممارسة مسؤولياته محكومة لإرادة الأمة-المجتمع- أي أن الحاكم لا يمثل سلطة دينية بل سلطة مدنية. ولم يقل أبو بكر عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أخرج نصا, بل كان كل ما قاله في حوار السقيفة هو أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "الأئمة من قريش"(2) ولم يذكر أحد من الحضور نصا في شخص بعينه.
وحتى أحاديث القرشية فإننا نميل إلى ما قاله ابن خلدون في مقدمته من أن حديث القرشية معلل بما كانت عليه قريش من قوة ورياسة يجتمع عليها الناس كافة. ثم إذا نظرنا إلى التجربة التاريخية للمسلمين وغيرهم رجح عندنا بأن الأمر لا يصلح إلا أن يكون شورى واختيار من الأمة، ويمكن تحديد مفهوم القوة الذي أشار إليه ابن خلدون بما يتناسب مع اجتهادات كل زمان، فكما هو حاصل في عصرنا الحاضر بأن آلية الانتخابات أو الاستفتاء أو الاختيار الشعبي هي من الطرق التي تظهر قوة الشخص أو مجموعة سياسية لتولي قيادة الأمة.
2- واجب الرئيس في الخدمة وحق الأمة في الرقابة والتقويم
قال الصديق: "فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني" وهذا ما فهمه رضي الله عنه بأن واجب الحكومة والقيادة هي الإحسان والقيام بحقوق الأمة، لتتحصل –الحكومة أو الحاكم- بناء على ذلك على حق الإعانة والتأييد ومنح الثقة من الأمة وأهل العقد فيها، فإن أساء الحاكم فيرجع الحق من جديد للأمة بتقويم هذه الإساءة في الحاكم والحكومة، وبهذا فإن الإسلام جاء بالمحددات التي يجب أن يكون عليها تولي المسؤولية وهي القيام بأعبائها وإلا فإن الأمة التي استند إليها في تولي مسؤولياته لها حق عزله واختيار غيره, فليس في هذا الدين سلطات مطلقة لأحد أو صبغة دينية تجعله فوق المحاسبة والمساءلة وتحمل المسؤولية كائناَ من كان ولو كان صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأول المسلمين به. ولم يقرر الإسلام شكلا معينا للحكم وأفسح المجال للعقل الإنساني والتجربة البشرية لكي تطور آليات عديدة في تقويم الحكومة والحاكم كالتي طورها العقل الإنساني والتجربة البشرية اليوم في الرقابة على الإدارات السياسية؛ مثل المسائلة في المؤسسات الدستورية وسحب الثقة عنها وإجراءات التظاهر السلمي والاعتصامات والإضرابات، والكتابة في الصحافة، وكلها تؤدي إلى تقويم أو إسقاط الحكومة والعودة من للأمة لتختار من جديد.
وهكذا أقر الصديق رضي الله عنه بحق الأمة وأفرادها في الرقابة على أعماله ومحاسبته عليها، بل وفي مقاومته لمنع كل منكر يرتكبه وإلزامه بما يعتبرونه الطريق الصحيح والسلوك الشرعي (3). وأقرّ أنه لا يستمد سلطته من أي امتياز شخصي يجعل له أفضلية على غيره؛ لأن عهد الرسالات والرسل المعصومين قد انتهى، وأن آخر رسول كان يتلقى الوحي انتقل إلى جوار ربه، وقد كانت له سلطة خاصة مستمدة من عصمته كنبي ومن صفته كرسول يتلقى التوجيه من السماء، ولكن هذه العصمة قد انتهت بوفاته صلى الله عليه وسلم، ومن بعده أصبح الحكم والسلطة مستمدة من عقد البيعة وتفويض الأمة لحاكمها (4).
وهذا الإقرار والعمل الذي بدأ به الصديق رضي الله عنه ما هو إلا تطبيقا عمليا للمبادئ التي جاء بها الإسلام في مسألة الحكم والتي لعمقها وترسخها في نفوس الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم لم يخالفه فيها أحد.
إن الأمة في فقه أبي بكر لها إرادة حية واعية وتملك حق المناصرة والمناصحة والمتابعة والتقويم، فالواجب على الأمة نصرة الدولة والالتزام بواجباتها إكراما لشرع الله الذي تنافح وتدافع عنه الدولة والحاكم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من إجلال الله تعالى: إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير المغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط) (5)، والأمة واجب عليها أن تُناصح ولاة أمرها قال صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة – ثلاثا -) قال الصحابة: لمن يارسول الله؟ قال: (لله -عز وجل- ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) (6).
ومما استقر في مفهوم الصحابة؛ أن بقاء الأمة على الاستقامة رهن باستقامة حكامها ولذلك كان من واجبات الرعية تجاه حكامهم نصحهم وتقويمهم، ولقد طور العقل الإنسان اليوم آليات تحقيق هذه الغاية، فترجم ذلك إلى لجان متخصصة ومجالس شورية، تمد الحاكم بالخطط، وتزوده بالمعلومات، وتشير عليه بما يحسن أن يقرره.
وإن من المؤسف أن الكثير من دولنا المسلمة اليوم قد أعرضت عن هذه المبادئ في الحكم فعظمت مصيبتها في ظهور التسلط والسلطات المطلقة التي ليس لها حدود، والتخلف الذي يعم معظم ديار المسلمين ما هو إلا نتيجة لتسلط بغيض، ودكتاتورية مقيتة، وسلبية مجتمعية في التقويم. وأما الأمة التي تقوم بدورها في مراقبة الحاكم ومناصحته فإنها تأخذ بأسباب القوة والتمكين في الأرض (7).
3- مبادئ الأخلاق السياسية
"الصدق أمانة والكذب خيانة" بهذه العبارة المختصرة أعلن الصديق مبدأ أساسياً تقوم عليه خطته في قيادة الأمة وهو: أن العلاقة يجب أن تكون شفافة بين الأمة ومن يقودها ويتولى أمرها. الشفافية بين السلطة والمجتمع هو أساس التعامل، وهذا يتطلب ضرورة أن تكون قنوات الاتصال والتواصل بين السلطة والمجتمع مفتوحة ولا تعيقها أي عراقيل وهذا يستلزم أيضاَ تطوير مستمر لآليات الشفافية والرقابة للسلطة. وهذا المبدأ السياسي له الأثر المهم في قوة الأمة حيث ترسيخ جسور الثقة بينها وبين السلطة.
إن الشفافية خلق سياسي منطلق من دعوة الإسلام إلى الصدق قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (التوبة، آية:119) والتحذير من كذب السلطة وغشها كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر (8).
(والكذب خيانة)، فيأبى أبو بكر إلا أن يمس المعاني، فيسمي الأشياء بأسمائها، فالحاكم الكذاب هو ذلك الوكيل الخائن الذي يأكل خبز الأمة ثم يخدعها، فما أتعس حاكم يتعاطى الكذب فيسميه بغير اسمه، لقد نعته الصديق بالخيانة، وأنه عدو أمته الأول. وهل بعد الخيانة من عداوة؟ ولأن حديثه سياسي وصف الكذب بأنه خيانة للأمة وهو ما يستوجب المسائلة والمحاسبة القانونية. وإن كثيراَ من شعوب العالم اليوم تسقط وتحجب الثقة عن حكامها متى اكتشف ارتكابهم للخيانة في حقهم.
لقد التزم الصديق بهذا المبدأ وسار على النهج النبوي الكريم في التعامل بين الحاكم والمحكوم، ويجب على الأمة أن تقاوم بكل ما لها من إمكانات أساليب تزوير إرادتها، واستخدام الإعلام وسيلة لترويج اتهامات باطلة لمن يعارضون السلطة أو ينتقدونهم، ولابد من إشراف الأمة على التزامها بالصدق والأمانة والشفافية من خلال مؤسساتها التي تساعدها على التقويم والمحاسبة، فتمنع سرقة إرادتها، وشرفها، وحريتها وثروتها.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وردت بعض الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبرها بعض العلماء تحوي إشارات على خلافة أبي بكر رضي الله عنه. ووجها آخرون على أنها إشارة إلى من سيخلف وليس عهدا لأبي بكر لأني النبي صلى الله عليه وسلم ملزم بتبليغ الوحي والأمر من الله ولو كان هذا مما أمر ببلاغه لشاع بين الناس. انظر كتاب أبو بكر الصديق شخصيته وعصره للصلابي ص: 130 - 139 دار ابن كثير 2005 بيروت لبنان
(2) جاء في ركن الفتوى بموقع الإسلام اليوم الكلام التالي: هذا الحديث أخرجه الحاكم من حديث علي بن أبي طالب –رضي الله عنه-، وله شواهد أخرى، ورواه الإمام أحمد، والنسائي في السنن الكبرى وابن أبي شيبة وممن صحح الحديث الألباني، وشعيب الأرنؤوط، وقال ابن حجر في التلخيص الحبير "رواه النَّسائيُّ عن أَنسٍ ، ورواهُ الطَّبرانِيُّ في الدُّعاء والْبزَّارُ والْبيهقِيُّ من طُرُقٍ عن أَنَسٍ... ولعل علة اشتراط كون الإمام من قريش هو أن من مقاصد الإمامة قوة النفوذ وهيبة السلطان؛ لتحقيق المصلحة للأمة ودفع الشرور عنها، وهذا إنما يتحقق في الإمام أصيل النسب، وليس المقصود به التبرك بالأنساب، ولهذا رأى بعض الفقهاء إلغاء هذا الشرط؛ لأنه كان موجوداً في زمن النبي – عليه الصلاة والسلام – وبعده، وأما في الأزمان اللاحقة فلا يتحقق فيها ذلك، وقد أشار إلى ذلك ابن خلدون في مقدمته، فقال: " ومن القائلين بنفي اشتراط القرشية، أبو بكر الباقلاني لما أدرك ما عليه عصبية قريش من التلاشي والاضمحلال، واستبداد ملوك العجم على الخلفاء، فأسقط القرشية، وإن كان موافقاً لرأي الخوارج لما رأى عليه حال الخلفاء بعهده". كذلك انظر الصلابي المصدر السابق ص: 132
(3) فقه الشورى والاستشارة، ص441.
(4) فقه الشورى والاستشارة، ص441.
(5) صحيح سنن ابي داود رقم 3504.
(6) مسلم ، كتاب الايمان، باب أن الدين نصحية رقم 55.
(7) تاريخ الدعوة الى الاسلام، ص249.
(8) مسلم، كتاب الايمان، رقم 172.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق