- بلادى توداى
- 10:34 م
- أبحاث ودراسات ، تحليلات هامة
- 1 تعليق واحد
د.علي الصلابي- إسماعيل القريتلي
خلصنا من الحديث في المقالة السابقة عما أرساه الصديق رضي الله عنه من أصول وقيم والتزامات تتعلق بأصول المبادئ والأخلاق السياسية في الإسلام وهي مبدأ الشفافية بين السلطة والمجتمع. وننهي في هذه المقالة من سلسلة الثقافة الدستورية الحديث عن المبادئ الدستورية في عهد الصديق رضي الله عنه.
خلصنا من الحديث في المقالة السابقة عما أرساه الصديق رضي الله عنه من أصول وقيم والتزامات تتعلق بأصول المبادئ والأخلاق السياسية في الإسلام وهي مبدأ الشفافية بين السلطة والمجتمع. وننهي في هذه المقالة من سلسلة الثقافة الدستورية الحديث عن المبادئ الدستورية في عهد الصديق رضي الله عنه.
4- العدل والمساواة
لاستقرار المجتمع لابد من أصلين هما: العدل والمساواة فقال الصديق: "والضعيف فيكم قوي عندي حتى أرجع عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله" فبين أن من أصول الحكم وواجب الحكومة والحاكم السعي لتحقيق العدل والمساواة بين قطاعات وفئات المجتمع بغض النظر عن أي خلفية عرقية أو دينية أو ثقافية...
ولمواصلة إقامة العدل أبقى الصديق رضي الله عنه على القضاة المعينين في العهد النبوي كما عين عمر رضي الله عنه قاضيا في المدينة.
ولا شك أن العدل في فكر أبي بكر هو عدل الإسلام الذي يمثل الدعامة الرئيسية في إقامة المجتمع والحكم فلا وجود للإسلام في مجتمع يسوده الظلم ولا يعرف العدل. وإن إقامة العدل بين الناس أفراداً وجماعات ودولاً، ليست من الأمور التطوعية التي تترك لمزاج السلطة، بل إن إقامة العدل بين الناس في الإسلام تعد من أقدس الواجبات وأهمها، وقد أجمعت الأمة على وجوب العدل (1)، قال الفخر الرازي -رحمه الله- أجمعوا على أن من كان حاكماً وجب عليه أن يحكم بالعدل (2). وهذا الحكم تؤيده النصوص القرآنية والسنة النبوية.
إن من مبادئ الإسلام إقامة المجتمع الذي تسود فيه قيم العدل والمساواة ويمنع فيه الظلم، بكافة أشكاله وأنواعه، و يفسح المجال وييسر السبل أمام كل إنسان يطلب حقه أن يصل إليه بأيسر السبل وأسرعها دون أن يكلفه ذلك جهدا أو مالا ويمنع أي وسيلة من شأنها أن تعيق صاحب الحق من الوصول إلى حقه.
لقد أوجب الإسلام على الحكام أن يقيموا العدل بين الناس دون النظر إلى لغاتهم أو أوطانهم أو أديانهم أو أعراقهم أو أحوالهم الاجتماعية (3)، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (سورة المائدة، آية:8).
إن مبدأ المساواة الذي ضمنه الصديق في بيانه الذي ألقاه على الأمة، يعد أحد المبادئ العامة التي أقرها الإسلام في بناء المجتمعات، ومما ورد في القرآن الكريم تأكيداً لمبدأ المساواة قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (سورة الحجرات، آية:13).
إن الناس جميعاً في نظر الإسلام سواسية، الحاكم والمحكوم، الرجال والنساء، العرب والعجم، الأبيض والأسود، لقد ألغى الإسلام الفوارق بين الناس بسبب الجنس واللون أو النسب أو الطبقة، والحكام والمحكومون كلهم في نظر الشرع سواء (4)، وجاءت ممارسة الصديق لهذا المبدأ خير شاهد على ذلك حيث يقول: القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له حقه (5).
لقد كان الصديق ينفق من بيت مال المسلمين فيعطي كل ما فيه سواسية بين الناس، فقد روى ابن سعد وغيره أن أبا بكر، كان له بيت مال بالسُّنح معروف، ليس يحرسه أحد، فقيل له: ألا تجعل على بيت المال من يحرسه؟ فقال: لا يخاف عليه، قيل له: ولم؟ قال: عليه قفل! وكان يعطي ما فيه حتى لا يبقى فيه شيئاً، فلما تحوّل إلى المدينة حوّله معه فجعله في الدار التي كان فيها، وقدم عليه مال من معدن من معادن جُهينة، فكان كثيراً، وانفتح معدن بني سليم في خلافته، فقدم عليه منه بصدقة فكان يضع ذلك في بيت المال، فيقسمه بين الناس سوّياً، بين الحر والعبد، والذكر والأنثى، والصغير والكبير على السواء. قالت عائشة رضي الله عنها: فأعطى أول عام الحرّ عشرة والمملوك عشرة، وأعطى المرأة عشرة، وأمتها عشرة، ثم قسم في العام الثاني، فأعطاهم عشرين عشرين، فجاء ناس من المسلمين فقالوا: يا خليفة رسول الله: إنك قسمت هذا المال فسوّيت بين الناس، ومن الناس أناس لهم فضل وسوابق وقدم، فلو فضلت أهل السوابق والقدم والفضل. فقال: أما ما ذكرتم من السوابق والقدم والفضل فما أعرفني بذلك وإنما ذلك شيء ثوابه على الله جلّ ثناؤه، وهذا معاش، فالأسوة فيه خير من الأثرة (6) فقد كان توزيع العطاء في خلافته على التسوية بين الناس، وكان يشتري الإبل والخيل والسلاح، فيحمل في سبيل الله، واشترى عاماً قطائف (القطيفة كساء مخمل) أتى بها من البادية، ففرقها في أرامل أهل المدينة في الشتاء (7).
إن الإسلام في فقه رجل دولته النابه يضع القهر تحت أقدام قومه، ويرفع بالعدل رؤوسهم فيؤمن به كيان دولته ويحفظ لها دورها في حراسة الملة والأمة (8). قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (سورة النحل، آية:90). ومما قاله ابن تيمية رحمه الله في أهمية العدل: إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا ينصر الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة... بالعدل تستصلح الرجال، وتستغزر الأموال (9).
5- الدفاع عن الأمة ورسالتها
"لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل" بهذا أكد الصديق على أساس الدفاع عن المجتمع المسلم أمام أي محاولات لزعزعة أمنه من الداخل أو الخارج وهو أساس دستوري مهم يعطي الأمة حقها في الاستعداد للدفاع عن نفسها، وكان التطبيق الفعلي واضحا لهذا الأساس فقد جهز أبو بكر رضي الله عنه الجيوش لإحباط المساعي الداخلية المتمثلة في حركات الردة والامتناع عن دفع الزكاة وكذلك بدأ يحمي حدود الدولة المسلمة بتوجيه الجيوش للإمبراطوريات المجاورة التي كانت قد بدأت تضيق ذرعا بالدولة الناشئة.
6- عاقبة مخالفة منهج الله ولأن الدولة المسلمة هي دولة قيم وأخلاق ونبل فكان أن عبر الصديق على ضرورة الأخلاق الاجتماعية بعد أن عبر عن الأخلاق السياسية فقال: "ولا تشيع الفاحشة في قومٍ إلا عمّهم الله بالبلاء" إذا هو ربط ما بين الرفاهية ورغد العيش وبين التزام منهج الله سبحانه وتعالى الذي يحث على الطيبات في الفكر والسلوك والأخلاق والعلاقات. والصديق هنا يذكر الأمة بقول النبي: (لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا...) (10) إن الفاحشة هي داء المجتمع العضال الذي لا دواء له، وهي سبيل تحلله وضعفه حيث لا قداسة لشيء، فالمجتمع الفاحش لا يغار ويقر الدنية ويرضاها.
إن علاقة الأخلاق بقيام الدول وظهور الحضارة علاقة ظاهرة، فإن فسدت الأخلاق، وخربت الذمم، ضاعت الأمم، وعمها الفساد والدمار, والدارس لحياة الأمم السابقة والحضارات السالفة بعين البصيرة، يدرك كيف قامت حضارات على الأخلاق الكريمة، قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} (سورة الإسراء، آية:16).
إن من واجبات الدولة والسلطة أن تنشئ أفرادها على الأخلاق القويمة لأنه سيصبح مجتمعا يدرك سبب وجوده ودوره الإيجابي في عمارة هذه الحياة (11). وأما بتربية المجتمعات على الانحطاط ونبذ القيم والأخلاق تنتج دولة ضعيفة متهلهة لا مكان لها بين الأمم ويصدق فيهم قول الله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءَامِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (سورة النحل، آية:112).
7- شرط استمرار السلطة في أداء واجبها
لما كان الالتزام منهج الله ليس فرضا على المجتمع دون السلطة جاء تأكيد الصديق رضي الله عنه بأن شرط الثقة والولاية على المسلمين قائم على التزام ما أمر الله ورسوله به فقال: "أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم" والتزام الإسلام للمسلمين هو ما أمر به الله ورسوله من إقامة للعدل ومساواة بين الناس وحماية المجتمع والأمة والسعي لتحقيق مصالحها. ثم يختم الصديق بما يدل على أن ما يفعله عبادة لله تعالى تحقق معنى الإسلام بأن نادى الناس بالصلاة فقال فقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله (12). فلم يكن هذا البيان الرئاسي إلا خطبة في يوم الجمعة وهي شعيرة إسلامية وعبادة فرضها الله تعالى على المؤمنين ولعل في هذا دلالة واضحة إلى أن الإسلام منهج متكامل لحياة الإنسانية يجمع في أسسه بين عبادة الله تعالى وتنظيم الحياة الإنسانية.
إن الحديث عن فصل الإسلام عن الحياة إلا نتاج عدم تمعن في رسالة الإسلام كما جاء بها القرآن الكريم والسنة والتطبيقات النبوية وحركة المسلمين طوال تاريخهم الطويل. وإن دعاوى الانفصام تمثل امتدادا لقراءات تاريخية مستوردة خاطئة، لواقع الصراع بين الكنيسة والمجتمع في عصور أوروبا، وأما الإسلام فعصوره مثلت حضارة إنسانية فريدة.
إن تعميم تلك المفاهيم والإسقاطات على المجتمعات المسلمة المعاصرة هو خطأ ينبغي إعادة النظر فيه بروية وحياد.
ولا شك أن العدل في فكر أبي بكر هو عدل الإسلام الذي يمثل الدعامة الرئيسية في إقامة المجتمع والحكم فلا وجود للإسلام في مجتمع يسوده الظلم ولا يعرف العدل. وإن إقامة العدل بين الناس أفراداً وجماعات ودولاً، ليست من الأمور التطوعية التي تترك لمزاج السلطة، بل إن إقامة العدل بين الناس في الإسلام تعد من أقدس الواجبات وأهمها، وقد أجمعت الأمة على وجوب العدل (1)، قال الفخر الرازي -رحمه الله- أجمعوا على أن من كان حاكماً وجب عليه أن يحكم بالعدل (2). وهذا الحكم تؤيده النصوص القرآنية والسنة النبوية.
لاستقرار المجتمع لابد من أصلين هما: العدل والمساواة فقال الصديق: "والضعيف فيكم قوي عندي حتى أرجع عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله" فبين أن من أصول الحكم وواجب الحكومة والحاكم السعي لتحقيق العدل والمساواة بين قطاعات وفئات المجتمع بغض النظر عن أي خلفية عرقية أو دينية أو ثقافية...
ولمواصلة إقامة العدل أبقى الصديق رضي الله عنه على القضاة المعينين في العهد النبوي كما عين عمر رضي الله عنه قاضيا في المدينة.
ولا شك أن العدل في فكر أبي بكر هو عدل الإسلام الذي يمثل الدعامة الرئيسية في إقامة المجتمع والحكم فلا وجود للإسلام في مجتمع يسوده الظلم ولا يعرف العدل. وإن إقامة العدل بين الناس أفراداً وجماعات ودولاً، ليست من الأمور التطوعية التي تترك لمزاج السلطة، بل إن إقامة العدل بين الناس في الإسلام تعد من أقدس الواجبات وأهمها، وقد أجمعت الأمة على وجوب العدل (1)، قال الفخر الرازي -رحمه الله- أجمعوا على أن من كان حاكماً وجب عليه أن يحكم بالعدل (2). وهذا الحكم تؤيده النصوص القرآنية والسنة النبوية.
إن من مبادئ الإسلام إقامة المجتمع الذي تسود فيه قيم العدل والمساواة ويمنع فيه الظلم، بكافة أشكاله وأنواعه، و يفسح المجال وييسر السبل أمام كل إنسان يطلب حقه أن يصل إليه بأيسر السبل وأسرعها دون أن يكلفه ذلك جهدا أو مالا ويمنع أي وسيلة من شأنها أن تعيق صاحب الحق من الوصول إلى حقه.
لقد أوجب الإسلام على الحكام أن يقيموا العدل بين الناس دون النظر إلى لغاتهم أو أوطانهم أو أديانهم أو أعراقهم أو أحوالهم الاجتماعية (3)، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (سورة المائدة، آية:8).
إن مبدأ المساواة الذي ضمنه الصديق في بيانه الذي ألقاه على الأمة، يعد أحد المبادئ العامة التي أقرها الإسلام في بناء المجتمعات، ومما ورد في القرآن الكريم تأكيداً لمبدأ المساواة قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (سورة الحجرات، آية:13).
إن الناس جميعاً في نظر الإسلام سواسية، الحاكم والمحكوم، الرجال والنساء، العرب والعجم، الأبيض والأسود، لقد ألغى الإسلام الفوارق بين الناس بسبب الجنس واللون أو النسب أو الطبقة، والحكام والمحكومون كلهم في نظر الشرع سواء (4)، وجاءت ممارسة الصديق لهذا المبدأ خير شاهد على ذلك حيث يقول: القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له حقه (5).
لقد كان الصديق ينفق من بيت مال المسلمين فيعطي كل ما فيه سواسية بين الناس، فقد روى ابن سعد وغيره أن أبا بكر، كان له بيت مال بالسُّنح معروف، ليس يحرسه أحد، فقيل له: ألا تجعل على بيت المال من يحرسه؟ فقال: لا يخاف عليه، قيل له: ولم؟ قال: عليه قفل! وكان يعطي ما فيه حتى لا يبقى فيه شيئاً، فلما تحوّل إلى المدينة حوّله معه فجعله في الدار التي كان فيها، وقدم عليه مال من معدن من معادن جُهينة، فكان كثيراً، وانفتح معدن بني سليم في خلافته، فقدم عليه منه بصدقة فكان يضع ذلك في بيت المال، فيقسمه بين الناس سوّياً، بين الحر والعبد، والذكر والأنثى، والصغير والكبير على السواء. قالت عائشة رضي الله عنها: فأعطى أول عام الحرّ عشرة والمملوك عشرة، وأعطى المرأة عشرة، وأمتها عشرة، ثم قسم في العام الثاني، فأعطاهم عشرين عشرين، فجاء ناس من المسلمين فقالوا: يا خليفة رسول الله: إنك قسمت هذا المال فسوّيت بين الناس، ومن الناس أناس لهم فضل وسوابق وقدم، فلو فضلت أهل السوابق والقدم والفضل. فقال: أما ما ذكرتم من السوابق والقدم والفضل فما أعرفني بذلك وإنما ذلك شيء ثوابه على الله جلّ ثناؤه، وهذا معاش، فالأسوة فيه خير من الأثرة (6) فقد كان توزيع العطاء في خلافته على التسوية بين الناس، وكان يشتري الإبل والخيل والسلاح، فيحمل في سبيل الله، واشترى عاماً قطائف (القطيفة كساء مخمل) أتى بها من البادية، ففرقها في أرامل أهل المدينة في الشتاء (7).
إن الإسلام في فقه رجل دولته النابه يضع القهر تحت أقدام قومه، ويرفع بالعدل رؤوسهم فيؤمن به كيان دولته ويحفظ لها دورها في حراسة الملة والأمة (8). قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (سورة النحل، آية:90). ومما قاله ابن تيمية رحمه الله في أهمية العدل: إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا ينصر الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة... بالعدل تستصلح الرجال، وتستغزر الأموال (9).
5- الدفاع عن الأمة ورسالتها
"لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل" بهذا أكد الصديق على أساس الدفاع عن المجتمع المسلم أمام أي محاولات لزعزعة أمنه من الداخل أو الخارج وهو أساس دستوري مهم يعطي الأمة حقها في الاستعداد للدفاع عن نفسها، وكان التطبيق الفعلي واضحا لهذا الأساس فقد جهز أبو بكر رضي الله عنه الجيوش لإحباط المساعي الداخلية المتمثلة في حركات الردة والامتناع عن دفع الزكاة وكذلك بدأ يحمي حدود الدولة المسلمة بتوجيه الجيوش للإمبراطوريات المجاورة التي كانت قد بدأت تضيق ذرعا بالدولة الناشئة.
6- عاقبة مخالفة منهج الله ولأن الدولة المسلمة هي دولة قيم وأخلاق ونبل فكان أن عبر الصديق على ضرورة الأخلاق الاجتماعية بعد أن عبر عن الأخلاق السياسية فقال: "ولا تشيع الفاحشة في قومٍ إلا عمّهم الله بالبلاء" إذا هو ربط ما بين الرفاهية ورغد العيش وبين التزام منهج الله سبحانه وتعالى الذي يحث على الطيبات في الفكر والسلوك والأخلاق والعلاقات. والصديق هنا يذكر الأمة بقول النبي: (لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا...) (10) إن الفاحشة هي داء المجتمع العضال الذي لا دواء له، وهي سبيل تحلله وضعفه حيث لا قداسة لشيء، فالمجتمع الفاحش لا يغار ويقر الدنية ويرضاها.
إن علاقة الأخلاق بقيام الدول وظهور الحضارة علاقة ظاهرة، فإن فسدت الأخلاق، وخربت الذمم، ضاعت الأمم، وعمها الفساد والدمار, والدارس لحياة الأمم السابقة والحضارات السالفة بعين البصيرة، يدرك كيف قامت حضارات على الأخلاق الكريمة، قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} (سورة الإسراء، آية:16).
إن من واجبات الدولة والسلطة أن تنشئ أفرادها على الأخلاق القويمة لأنه سيصبح مجتمعا يدرك سبب وجوده ودوره الإيجابي في عمارة هذه الحياة (11). وأما بتربية المجتمعات على الانحطاط ونبذ القيم والأخلاق تنتج دولة ضعيفة متهلهة لا مكان لها بين الأمم ويصدق فيهم قول الله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءَامِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (سورة النحل، آية:112).
7- شرط استمرار السلطة في أداء واجبها
لما كان الالتزام منهج الله ليس فرضا على المجتمع دون السلطة جاء تأكيد الصديق رضي الله عنه بأن شرط الثقة والولاية على المسلمين قائم على التزام ما أمر الله ورسوله به فقال: "أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم" والتزام الإسلام للمسلمين هو ما أمر به الله ورسوله من إقامة للعدل ومساواة بين الناس وحماية المجتمع والأمة والسعي لتحقيق مصالحها. ثم يختم الصديق بما يدل على أن ما يفعله عبادة لله تعالى تحقق معنى الإسلام بأن نادى الناس بالصلاة فقال فقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله (12). فلم يكن هذا البيان الرئاسي إلا خطبة في يوم الجمعة وهي شعيرة إسلامية وعبادة فرضها الله تعالى على المؤمنين ولعل في هذا دلالة واضحة إلى أن الإسلام منهج متكامل لحياة الإنسانية يجمع في أسسه بين عبادة الله تعالى وتنظيم الحياة الإنسانية.
إن الحديث عن فصل الإسلام عن الحياة إلا نتاج عدم تمعن في رسالة الإسلام كما جاء بها القرآن الكريم والسنة والتطبيقات النبوية وحركة المسلمين طوال تاريخهم الطويل. وإن دعاوى الانفصام تمثل امتدادا لقراءات تاريخية مستوردة خاطئة، لواقع الصراع بين الكنيسة والمجتمع في عصور أوروبا، وأما الإسلام فعصوره مثلت حضارة إنسانية فريدة.
إن تعميم تلك المفاهيم والإسقاطات على المجتمعات المسلمة المعاصرة هو خطأ ينبغي إعادة النظر فيه بروية وحياد.
ولا شك أن العدل في فكر أبي بكر هو عدل الإسلام الذي يمثل الدعامة الرئيسية في إقامة المجتمع والحكم فلا وجود للإسلام في مجتمع يسوده الظلم ولا يعرف العدل. وإن إقامة العدل بين الناس أفراداً وجماعات ودولاً، ليست من الأمور التطوعية التي تترك لمزاج السلطة، بل إن إقامة العدل بين الناس في الإسلام تعد من أقدس الواجبات وأهمها، وقد أجمعت الأمة على وجوب العدل (1)، قال الفخر الرازي -رحمه الله- أجمعوا على أن من كان حاكماً وجب عليه أن يحكم بالعدل (2). وهذا الحكم تؤيده النصوص القرآنية والسنة النبوية.
--------------------------------------------------
(1) فقه التمكين في القرآن الكريم، ص455.
(2) تفسير الرازي (10/141).
(3) فقه التمكين في القرآن الكريم، ص459.
(4) فقه التمكين في القرآن الكريم، ص460،461.
(5) البداية والنهاية (6/305).
(6) أبوبكر الصديق، طنطاوي، ص187،188؛ ابن سعد (3/193).
(7) تاريخ الدعوة الى الاسلام، ص258.
(8) أبوبكر رجل الدولة، ص46.
(9) السياسة الشرعية، ص10.
(10) صحيح الألباني (2/370) رقم الحديث في ابن ماجة 4019.
(11) تاريخ الدعوة الى الاسلام، ص 253.
(12) انظر أبو بكر الصديق للصلابي المبحث الثاني البيعة العام ص: 147 - 162
وقد ذكر الإمام الأفغاني رحمه الله (لا خير في القوي الظالم، ولا خير في الضعيف العادل)، فلابد أن تجتمع القوة والعدل حتى نتمكن من شق طريق بحرية
ردحذف