- بلادى توداى
- 3:33 ص
- أبحاث ودراسات ، تحليلات هامة
- لا توجد تعليقات
د.علي الصلابي- إسماعيل القريتلي
المصالحة الوطنية في عهد الحسن بن علي
بدأنا في المقال السابق الحديث عن المصالحة التي قادها الحسن، وقبل بها معاوية رضي الله عنهما وتفاعل معها، وذكرنا كيف أن الجانبين كانا يمتلكان من أسباب القوة ما يستبعد خيار الخضوع لطرف أقوى. وفي هذا المقال نستكمل بقية المراحل التي مرت بها عمليات المصالحة.
ثانيا: التفاوض حول شروط المصالحة
أشارت المصادر التاريخية والحديثية إلى أن المصالحة تمت وفق شروط وضعها الطرفان.
أ- العمل بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة الخلفاء
تذكر رواية البخاري أن الحسن ما سأل الوفد (عبد الرحمن بن سمرة وعبد الله بن عامر) شيئًا إلا قالا له: نحن لك به، وكان أول ما طالب به الحسن العمل وفق توجيهات القرآن الكريم والسنة النبوية باعتبارهما المرجعية لدولة ومجتمع المسلمين، وقد ذكر ابن حجر الهيتمي: "صالحه على أن يسلم إليه ولاية المسلمين وأن يعمل فيهم بكتاب الله وسنة ورسوله وسيرة الخلفاء الراشدين المهديين.
وفي هذا تأكيد على أن من أهم مسائل وأولويات المصالحة الوطنية الاتفاق على المرجعية العليا للدولة، وبالاتفاق على هذه المرجعية التي يمكن أن تتمثل في دستور انتقالي ثم دائم، وتصبح أمان شرعية النظام المستهدف، وتكون القوى المتصالحة قد رسخت قواعد التعايش المشترك وفق المرجعية والمبادئ التي وافقت عليها الأغلبية، مع مراعاة كاملة لحقوق كافة الأقليات سواء أكانت دينية أو مذهبية طائفية أو عرقية.
ب- الأموال
ذكر البخاري في صحيحه أن الحسن قال لوفد معاوية؛ عبد الرحمن بن سمرة، وعبد الله بن عامر بن كريز: إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال. فمن لي بهذا؟ قالا: نحن لك به. فالحسن يتحدث عن أموال سبق أن أصابها هو وغيره من بني عبد المطلب يريد الحسن أن لا يطالبهم بها معاوية، ولا ذكر لأموال يطلب من معاوية أن يدفعها إليه من قادم.(1)
وهنا يطالب الحسن معاوية رضي الله عنهما أن لا يضع يده على أموال الحسن وأهله، والتي أخذوها بوجه حق، ويستعملونها في قضاء حوائجهم ومن معهم من المسلمين. وقد وافق معاوية على شرط الحسن، ويُروى أنه زاد على شرط الحسن بالكثير من الصلات التي حافظ عليها معاوية مع آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا دلالة واضحة أن المصالحة تستوجب في بعض مراحلها الاتفاق على إغلاق كافة القضايا العالقة، لأن الهدف من المصالحة أساسا هو الخروج من حالة الاحتراب والتنافر الداخلي، والانطلاق قُدما نحو بناء الحاضر والمستقبل دون الوقوف عند أي حالة ترقب ومحاسبة، يطول فيها التجادل وتبرز من خلالها الكثير من التناقضات والمعوقات. إن المصالحة تعني بوضوح تام إغلاقا كاملا للمحاسبة، ولكن مع إرجاع كامل للحقوق، وإنصاف تام لأصحاب المظالم.
ج- العفو العام
كان الحسن رضي الله عنه يعي أن الدماء قد أريقت بين المسلمين، منذ مقتل عثمان وحتى اغتيال والده رضي الله عنهما، وإن هذه المصالحة لن يكتب لها الحياة إذا أصر كل فريق على المطالبة بالدماء التي أصابها الفريق المقابل، و لذا كان من المهم أن يتضمن اتفاق المصالحة بين الجانبين تأمين جميع الناس على دمائهم، ومما جاء في رواية البخاري أن الحسن قال لوفد معاوية: "إن هذه الأمة عاثت في دمائها، فكفل الوفد للحسن العفو للجميع فيما أصابوا من الدماء.(2)
لقد اشترط الحسن على معاوية رضي الله عنهما، أن لا يطالب أحدًا من أهل المدينة والحجاز والعراق بشيء(3)، وهو ما يترتب عليه ضرورة ترك المطالبة بدم ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقد تم الاتفاق على عدم مطالبة أحد بشيء كان في أيام علي رضي الله عنه، وقد تمت المصالحة المؤسسة على الالتزام بالشرعية؛ حيث تأسست على العفو المطلق عن كل ما كان بين الفريقين، قبل إبرام وثيقة المصالحة، وبالفعل لم يتعقب معاوية أحدًا بذنب سابق، وتأسس بذلك صلح الحسن على الإحسان والعفو، تأليفًا لقلوب الجماعة. وهنا يتأكد لنا بأن العدالة الانتقالية التي أرستها المصالحة بين المسلمين في العراق والشام، وقادها الحسن ومعاوية رضي الله عنهما قد أخرجت الأمة من مشكلة استمرت منذ اغتيال عثمان، ولم تنته إلا باغتيال علي رضي الله عنهما.
إن هذه العدالة وتلك المصالحة قامت على إعطاء الأمان للناس والعودة إلى الشرعية المؤسسة على المرجعية المتفق عليها في المجتمع، وبنيت على تقديم وحدة الأمة على المصالح الفئوية، والمتابع لمسار تاريخ المسلمين بعد المصالحة يلحظ بوضوح الآثار الكبيرة التي ترتبت عليها سواء بتحقيق الأمن والرفاه الاجتماعي أو بتوسع رقعة الدولة وزيادة مواردها، وأخذها بالحظ الأوفر بين الحضارات الإنسانية جمعاء.
إننا اليوم، وأمام ما نحن فيه من أوضاع خانقة يتحتم علينا السعي لإطلاق مبادرات للمصالحة الوطنية، عبر المنابر المختلفة داخل وخارج الوطن، بغية الوصول إلى صيغ للمصالحة تغدو مقبولة بين فئات المجتمع المتنوعة، وتطبيقات راسخة للعدالة الانتقالية التي يسترد فيها أصحاب الحقوق ما لهم، مع عفو شامل وعام على من كان سببا لتلك المظالم، وهذه العدالة الانتقالية تؤسس للعدالة الدائمة التي تحتكم إلى المرجعية وينظمها الدستور والقانون.
إن الحديث عن المصالحة الوطنية يسترعي انتباهنا إلى أن الحوار مع كل فئات المجتمع مهما اختلفت بات أمرا ملحا، لا يجوز التراخي فيه فضلا عن فداحة الخطأ في إشاحة النظر عنه؛ فمجتمعنا وبرغم الكثير من الاحتكاكات التي سقط جراء بعضها قتلى في كل الاتجاهات وعلى مختلف الجبهات، لا يزال يملك -استنادا لهذا الخبرة التاريخية وإيمانه بقيم التسامح- أن يفتح بابا واسعا للحوار والمصالحة، ربما يصير بعد ذلك نموذجا ومثالا يُحتذى به، خصوصا في المغرب العربي الذي بات مهددا أكثر من ذي قبل بموجات عنف، ستضر بالجاني والضحية معا، موجات لن يكون أحد بمعزل عن تداعياتها، أو في مأمن من عواقبها وآثارها.
إننا نقرر بأن مبدأ وآليات الحوار الحضاري كمدخل طبيعي وملح للاستماع والتشاور بين أطياف المشهد الليبي الكبير، ومن المؤكد إن الطرف الرسمي في ليبيا بحكم امتلاكه لقوة المبادرة هو المطالب بشكل أساسي بعدم تجاهل المقدمات الطبيعية للمصالحة، وهي فتح الباب واسعا أمام الحوار الوطني، الذي يتحقق فيه لكل الليبيين المشاركة، وطرح الأفكار والبرامج.
د- العودة إلى مبدأ الشورى والاختيار
جاء في نص الصلح الذي ذكره ابن حجر الهيتمي: "... بل يكون الأمر من بعده (أي معاوية) شورى بين المسلمين. وروي عن الحسن قوله: "أما ولاية الأمر من بعده، فما أنا بالراغب في ذلك ولو أردت هذا الأمر لم أسلمه(4).
إن هذا الشرط الذي طالب به الحسن رضي الله عنه يؤكد على إدراك الحسن إلى أن الخيار دائما يعود للأمة وهو ما استمر عليه المسلمون حتى بعد ما مروا به من صعوبات جمة، أدت إلى العديد من المواجهات الداخلية الدامية، وبهذا الشرط يعود الحسن بالأمة إلى أصلها الأول، وهو أن الحكم مبدأه وانتهاؤه الشورى بين المواطنين، خصوصا وهو من قال لأبيه رضي الله عنهما عند بيعته أن يوسع دائرة الاختيار لتشمل كافة أقاليم الدولة المسلمة، وكان لعلي رضي الله عنه رأي بأن المدينة هي عاصمة الإسلام وفيها تؤخذ القرارات الكبرى والتي من بينها الحكم، وكان الحسن ينظر برؤية الشاب الذي يعي متطلبات عصره والتطور الذي لحق بتركيبة المجتمع المسلم بعد أن دخلته شعوب كبيرة وعريقة، وهنا في الصلح بعد سنين طويلة يعود بالحق للأمة، فيشترط على معاوية أن يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين.
وبغض النظر على ما تم بعد ذلك من توريث معاوية الأمر لابنه يزيد، وما لحق ذلك من فرض لمبدأ ولاية العهد، الذي لا يتوافق بحال مع ما تأكد في التطبيقات النبوية والخلافة الراشدة من أن المجتمع هو مركز الأمة الحضاري ومصدر قوتها، بغض النظر عن كل ذلك فإن الأساس العلمي والبناء القيمي يؤكد على أن المسلمين لم يكن لهم من سبيل سوى الشورى لاختيار الحاكم ومراقبة سير السلطة، والمطلوب منا اليوم العودة إلى أصلنا الأول بتطوير آليات التشاور بما يتناسب مع تركيبتنا المجتمعية والسياسية والثقافية، آليات تقصد إلى تحقيق مشاركة المجتمع وعودته إلى مركز القرار والرقابة على مسار الدولة.
ثالثا: الإعلان التدريجي عن المصالحة
بعد أن تثبت الحسن رضي الله عنه من سلامة القصد، وصدق النية عند أهل الشام، بدأ يعلن بين مقربيه رغبته في مصالحة معاوية، فقد قال ابن جعفر: "والله إني لجالس عند الحسن إذ أخذت لأقوم فجذب بثوبي وقال: أقعد يا هناه(5)، واجلس، فجلست قال: إني قد رأيت رأيًا وأحب أن تتابعني عليه قال: قلت: ما هو؟ قال: قد رأيت أن أعمد إلى المدينة فأنزلها وأخلي بين معاوية وبين هذا الحديث، فقد طالت الفتنة، وسقطت فيها الدماء، وقطعت فيها الأرحام، وقطعت السبل، وعُطلت الفروج- يعني الثغور- فقال ابن جعفر: جزاك الله عن أمة محمد، فأنا معك على هذا الحديث، فقال الحسن: ادع لي الحسين، فبعث إلى الحسين فأتاه فقال: يا أخي قد رأيت رأيًا وإني أحب أن تتابعني عليه. قال: ما هو؟ قال: فقص عليه الذي قال لابن جعفر قال الحسين: أعيذك بالله أن تكذب عليًا في قبره وتصدق معاوية. قال الحسن: والله ما أردت أمرًا قط إلا خالفتني إلى غيره، والله لقد هممت أن أقذفك في بيت فأطينه عليك حتى أقضي أمري. قال: فلما رأى الحسين غضبه قال: أنت أكبر ولد علي، وأنت خليفته، أمرنا لأمرك تبع، فافعل ما بدا لك(6).
لا يساورنا الشك بأن الحسن رضي الله عنه اتخذ قرارا لا يسهل على الكثير اتخاذ مثله، نظرا لما يحف به من مخاطر، وربما اعتبره البعض مغامرة غير محسوبة النتائج، فضلا عن تصادمه مع رغبة الكثير ممن بايع الحسن، غير أن الحسن قرر المضي فيما اعتقد أنه يحقق أعم المصالح وأشمل النتائج، وقد حقق فعلا عودة الأمة لحقيقة وجودها.
وهذا أمر يفرض على من يملك القرار في بلداننا أن يلتمس الأهم للأمة فيسير نحوه، لا توقفه المخاوف ولا تعرقله الهواجس، ويكفي له فخرا أن يسجل التاريخ اسمه بحروف من نور، ويصبح ما قام به تجربة إنسانية خالدة تزرع الأمل، وتضئ الشموع أمام المجتمعات اليائسة من أوضاعها، والخائفة على مستقبلها. فضلا عما يشعر به رواد المصالحات من الشعور بالرضا وراحة الضمير، وبالتأكيد للمؤمنين منهم هناك حسن الجزاء من خالق الإنسان متى نقوا نواياهم له تعالى.
رابعا: الإعلان العام عن المصالحة والتمسك بها
بعد نجاح مفاوضات الصلح بين الحسن ومعاوية رضي الله عنهما، وأخذ الحسن مباركة أهم قادته ورجاله شرع في تهيئة نفوس أهل العراق على تقبل الصلح الذي تم، فقام فيهم خطيبًا ليبين لهم ما تم بينه وبين معاوية، فقال: "إني أرجو أن أكون أنصح خلقه لخلقه، وما أنا محتمل على أحد ضغينة، ولا حقدًا، ولا مريدًا به غائلة، ولا سوءًا، ألا وإن ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة، ألا وإني ناظر لكم خيرًا من نظركم لأنفسكم، فلا تخالفوا أمري، ولا تردوا علىَّ، غفر الله لي ولكم. فنظر بعض الناس إلى بعض وقالوا: عزم والله على صلح معاوية، وضعف وخار، وشدوا على فسطاطه، فدخلوه، انتزعوا مصلاه من تحته، وانتهبوا ثيابه، ثم شد عليه عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي جعال الأزدي، فنزع مطرفه (7) من عاتقه، فبقي متقلدًا سيفه فدهش ثم رجع ذهنه، فركب فرسه، وأطاف به الناس، فبعضهم يعجزه ويضعفه، وبعضهم ينحي أولئك منه، ويمنعهم منه، وانطلق رجل كان يرى رأي الخوارج، فقعد له فيه ينتظره فلما مر الحسن، ودنا من دابته فأخذ بلجامها، ثم أخرج معولاً(8) كان معه وقال: أشركت يا حسن كما أشرك أبوك من قبل، وطعنه بالمعول في أصل فخذه، فشق في فخذه شقًا كاد يصل إلى العظم، فحمل الحسن إلى المدائن للعلاج(9).
وبرغم ما كان من بعض أهل العراق ضد الحسن ومحاولة قتله للمرة الثالثة، فإن الحسن أصر على مواصلة خطة المصالحة حتى نهايتها، فبعد تماثله للشفاء جمع الحسن بن علي رؤوس أصحابه في قصر المدائن، فقال: "يا أهل العراق، لو لم تذهل نفسي(10) عنكم إلا لثلاث خصال لذهلت: مقتلكم أبي، ومطعنكم بغلتي وانتهابكم ثقلي، أو قال: ردائي عن عاتقي، وإنكم قد بايعتموني أن تسالموا من سالمت وتحاربوا من حاربت، وإني قد بايعت معاوية فاسمعوا له وأطيعوا، قال: ثم نزل فدخل القصر(11).
كما لم تمنع الحسن كل المعارضات والمحاولات عن ثنيه لإبرام المصالحة، فإن وطننا يرنو إلى رجال لا يصيخوا السمع إلى من يحثهم على النكوث عن المصالحة الوطنية، بل ينفتحوا على نداءات المصالحة بإرادة واعية لأهمية العودة بالوطن إلى حال الاستقرار، والالتزام أمام الأجيال ببناء ممر آمن نحو المستقبل من خلال إصلاح الكثير من عيوب الحاضر.
خامسا: تقوية المصالحة في الواقع ومحاورة الرافضين
كان الحسن رضي الله عنه يدرك تماما بأن المصالحة لن تنجح وتستمر بمجرد الإعلان عنها وتحمل بعض المناوشات التي تمت عند الإعلان، بل لابد من حشد التأييد لها وتثبيت أركانها بين أهل العراق قبل غيرهم، وكان من المهم للحسن أن يضمن موافقة شرطة الخميس على المصالحة، وقد تعاون الحسن مع معاوية في حشد تأييد جيوش العراق للمصالحة، حيث كان معاوية يلبي مطالب الناس للدخول في المصالحة، وقد روي موقف قيس بن سعد بن عبادة في التالي: "بعث الحسن بالبيعة إلى معاوية، فكتب بذلك الحسن إلى قيس بن سعد فقام قيس بن سعد في أصحابه فقال: يا أيها الناس، أتاكم أمران، لابد لكم من أحدهما: دخول في الفتنة، أو قلت مع غير إمام، فقال الناس: ما هذا؟ فقال: الحسن بن علي قد أعطى البيعة معاوية، فرجع الناس، فبايعوا معاوية(12).
إننا لا نتوقع لأي مبادرة جادة للمصالحة من أن يوجد لها بعض الرافضين، ولكلٍ أسباب رفضه، فمنهم من يرفض خوفا من الحساب، وآخرون يرفضون خوفا على بعض المكاسب، وهناك من تحمله بعض الهواجس إلى التردد في قبول المصالحة، والواجب على الأطراف المقتنعة التي تقود عمليات المصالحة عدم تجاهل تلك المخاوف والهواجس والمحاذير التي يرددها الرافضون، بل وجب التحاور معهم كما فعل الحسن رضي الله عنه مع من رفض المصالحة من أتباعه، وعلى كل الأطراف الداعمة للمصالحة أن تقدم العون والدعم الكامل لذلك الحوار، كما فعل معاوية رضي الله عنه بأن لبى كل مطالب الرافضين.
ونحن في بلدنا أجهزة في الدولة ربما اعتقدت أن المصالحة تضر بها بأي شكل من الأشكال، وهؤلاء من حقهم أن يعطوا الضمانات الكاملة على أن المصالحة لا تقصد الإضرار بأحد، بل تهدف إلى الانتقال بالمجتمع إلى بر الأمان، ليبدأ دورة حياة جديدة تتصف بالاستقرار والنماء والأمان، ويوجد إجماع وطني يعزز شرعية الدولة داخليا وخارجيا.
سادسا: تنازل الحسن عن الخلافة وتسليمه الأمر إلى معاوية
قبل أن يتحرك الحسن رضي الله عنه من المدائن قافلا إلى الكوفة، كان قد استلم كتاب المصالحة من معاوية يلبي له فيه ما اشترطه وطلبه. وبعد وصوله إلى الكوفة، وعدم حصول أي بلابل سار معاوية إلى الكوفة وتوقف عند أطرافها، وهنا صورة للحظات الأخيرة من إتمام المصالحة: "خرج الحسن رضي الله عنه من الكوفة إلى النخيلة ليقابل معاوية ويسلم الأمر له، فعن مجالد(13)، عن الشعبي، قال: شهدت الحسن بن علي بالنخيلة حين صالحه معاوية فقال معاوية: إذا كان ذا فقم فكلم وأخبر الناس أنك قد سلمت هذا الأمر لي، وربما قال: أخبر الناس بهذا الأمر الذي تركته لي- فقام فخطب على المنبر فحمد الله وأثنى عليه- قال الشعبي: وأنا أسمع- ثم قال: أما بعد فإن أكيس(14) الكيس التقي، وإن أحمق الحمق الفجور، وإن هذا الأمر الذي اختلفت فيه أنا ومعاوية إما كان حقًا لي تركته لمعاوية إرادة صلاح هذه الأمة وحقن دمائهم، أو يكون حقًا كان لامرئ كان أحق به مني ففعلت ذلك (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ)(15) [الأنبياء: 111]. وفي رواية أخرى قال: "ما بين جابلص(16) وجابلق رجل جده نبي غيري، وإني رأيت أن أصلح بين أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وكنت أحقهم بذاك، ألا إنا قد بايعنا معاوية ولا أدري لعلة فتنة لكم ومتاع إلى حين»(17).
لم يزد تنازل الحسن رضي الله عنه عن الأمر إلى معاوية، وسعيه إلى نجاح المصالحة حتى كاد يدفع حياته ثمنا لذلك، لم يزد ذلك الحسن إلا تعظيما، وجعل لتلك الخبرة التاريخية مكانا يزداد احتراما وقبولا عبر العصور، بل بات ما قام به الحسن أحد أهم الأمثلة التاريخية على المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية.
ونحن بحاجة اليوم إلى هذه المبادرات التي تجعل مصلحة الأمة، وحقوق الأجيال مقدمة على أي معنى آخر مهما عظم في نفسه صاحبه أو عقول فئة، إن ليبيا اليوم أمام فرصة حقيقية لتحقيق هذه المصالحة، والعودة بنا جميعا إلى الإمساك بمبادرات التنمية والرقي وبناء الإنسان على احترام القانون وعشق الحرية، وتعظيم الحق، والتعايش المشترك.
إننا نكتب هذه المقالات ونحن نلحظ أن هناك من يرفض الاستشهاد بهذه التجربة التاريخية، أو يعتبرها أشكالا استثنائية لا يمكن أن تعمم، وكأن المطلوب هو التنكر لها ليمنحنا البعض أوصاف التمدن والتنور، وبالتأكيد هذه حالة مرت بالكثير من مثقفينا في عقود مضت، وها هي تعود اليوم من جديد، ولن نقف نحن عند نقدها، بقدر ما نتمسك بالانطلاق من قيمنا مستفيدين من التطبيقات الإنسانية التي تطورت عبر الأزمان، ولكن لسنا ممن يشعر بأن منظومتنا الأخلاقية والقيمية ينقصها الاستيراد من الآخرين. وسيكون حديثنا في المقال القادم بإذن الله منصبا على نتائج تلك المصالحة العظيمة وبعض تأثيراتها على مسار التاريخ العام للمسلمين.
---------------------------------------------------------
(1) دراسة في تاريخ الخلفاء الأمويين، صـ (64)، الفتوح (3/ 293).
(2) البخاري، ك الصلح (2/ 963)، تاريخ الطبري (5/ 163، 164).
(3) التبيين في أنساب القرشيين، صـ (127)، الخلفاء الراشدون للنجار، صـ (482).
(4) الفتوح (3، 4/ 293)، الصواعق المرسلة (2/ 299).
(5) يا هناه: يا رجل.
(6) الطبقات، تحقيق السلمى (1/ 330، 331).
(7) مطرفه أي: رداءه، الفيروز أبادي، القاموس المحيط (1075).
(8) معولاً: حديدة ينقر بها الصخر، القاموس المحيط، صـ (1340).
(9) أنساب الأشراف للبلاذري مخطوطة نقلاً عن مرويات خلافة معاوية، صـ (142).
(10) تذهل نفسي: تسلو نفسي، لسان العرب (11/ 259).
(11) الطبقات، تحقيق السلُّمي (1/ 324)
(12) المطالب العلية (4/ 317- 319) هذا الإسناد صحيح.
(13) مجالد بن سعيد الهمذاني، فيه كلام.
(14) أكيس: أعقل، والكيس: العقل، لسان العرب (16/ 201).
(15) المعجم الكبير (3/ 26) إسناده حسن.
(16) جابلص وجابلق مدينتان، إحداهما بالمشرق والأخرى بالمغرب.
(17) فضائل الصحابة (2/ 769) إسناده صحيح
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق