- بلادى توداى
- 3:12 ص
- أبحاث ودراسات ، تحليلات هامة
- لا توجد تعليقات
د.علي الصلابي- إسماعيل القريتلي
المصالحة الوطنية في عهد الحسن بن علي
أنهينا في المقال السابق عرض المصالحة الوطنية بقيادة الحسن بن علي رضي الله عنه، ولاحظنا الجهود التي بذلها الفريقان لإتمام المصالحة، وإزاحة كل العقبات والموانع التي وقفت في وجه المصالحة لأسباب مختلفة، وأدركنا بوضوح أن المصالحة الوطنية تتطلب ممن يسعى إلى تحقيقها أن يملك قلبا كبيرا وعقلا ناضجا يمكناه بعد توفيق الله تعالى من أن يتجاوز عن جراح الماضي ومطامع الحاضر، ويجعل نصب عينيه هدفه الكبير؛ بتحقيق وحدة الأمة عبر مصالحة وطنية شاملة، وهذا بالتحديد ما
كان من الحسن ومعاوية رضي الله عنهما.
في هذه المقالة الأخيرة نتعرض لنتائج المصالحة الوطنية التي أنجزت بين الحسن ومعاوية، فنذكر أهم ما ترتب عليها في تلك الفترة التاريخية. وهذا لا يعني بحال أن النتائج وراء أي مصالحة يجب أن تكون كتلك التي كانت في مصالحة الحسن ومعاوية رضي الله عنهما، بل المقصود هو التأكيد على أن ما يترتب على المصالحة من نتائج كبيرة يستحق بذل الوقت والمال والحياة لأجل تحقيقها.
من نتائج المصالحة
ما أن تمت المصادقة على المصالحة بين المسلمين في الشام والعراق, وإعلانها بين الناس، حتى باتت تظهر بجلاء نتائجها الإيجابية، فاجتمعت الأمة فيما عرف بعام الجماعة، وانطلقت عجلة الفتوحات بعد أن توقفت سنين مديدة، وازدهرت الحركة العلمية في المدينة المنورة، التي قادها الصحابة العلماء، وعلى رأسهم سادات آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم. وهنا نستعرض طرفا من تلك النتائج والثمرات المباركة، وبشكل مختصر لا بقصد الإحاطة؛ فالمصالحة التي قادها الحسن تستحق وتحتاج إلى دراسة سياسية عميقة تنهج نفس المنهج الذي سار فيه الأستاذ محمد حميد الله عند دراسته لصحيفة المدينة في مؤلفه الممتع عن الوثائق السياسية في العهد النبوي التي كتبها بالفرنسية وترجمت إلى العربية. ولكننا هنا نستنبط من التجربة التاريخية ما ينفع موضوعنا عن الثقافة الدستورية المقصودة أساسا بهذه المقالات.
أولاً: توحد الأمة تحت قيادة واحدة
لقد نقش في الذاكرة التاريخية للمسلمين بأن العام الذي تمت فيه المصالحة الكبرى بات يحمل اسم عام الجماعة، فمنذ ذلك التاريخ ولقرون عديدة كانت تقود الأمة حكومة واحدة، ومن عاصمة سياسية واحدة. ومما لا شك فيه أن الفضل في كل ذلك كان لله تعالى، ثم للإمام الحسن بن علي رضي الله عنه، وقد قادت المصالحة إلى أن بايع كل الصحابة الأحياء معاوية رضي الله عنه.(1) وفي ذلك يقول ابن حزم: "فبويع الحسن ثم سُلِّم الأمر إلى معاوية، وفي بقايا الصحابة من هو أفضل منهما بلا خلاف ممن أنفق قبل الفتح وقاتل، وكلهم؛ أولهم عن آخرهم بايع معاوية، ورأى إمامته"(2).
ونخلص مما قام به الحسن رضي الله عنه، وموقف الصحابة ببيعة معاوية إلى عمق الإحساس والإدراك لأهمية وأصالة الوحدة السياسية للمجتمع والدولة، وكذلك الفهم الدقيق لتوجيهات القرآن الكريم التي تنهى عن الاختلاف، قال تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام: 153]، ويحسن بنا أن نذكر هنا أن الله تعالى نهى هذه الأمة عمّا وقعت فيه الأمم السابقة من الاختلاف والتفرق، كما نهى النبي الكريم صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال سبحانه: (وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [آل عمران: 105]. وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض" (3).
لقد حقق الحسن ومعاوية رضي الله عنهما بمصالحتهما مقصدا جليلا من مقاصد الشريعة؛ تمثل في وحدة المسلمين واجتماعهم. وبلا شك فإن المصالحة بين المسلمين والسعي إليها، والأخذ بالأسباب نحو تأليف قلوب المسلمين، وتوحيد صفهم من أعظم الجهاد في نظر الإسلام، لأن هذه الخطوة مهمة جدًا في إعزاز المسلمين، وإقامة دولتهم، وبسط العدل بين الناس ورفع الظلم عنهم.
ونحن عندما نطرح هذه الخبرة التاريخية ندرك بوضوح تام ما تمر به بلادنا والكثير من بلاد المسلمين، من إشكالات سياسية تختلف طبائعها من بلد لآخر، ولكنها تجتمع في أننا نواجه حقائق جمة من التفرد بالقرار وبعضها يرتقي إلى حد الاستبداد، مما يهدد وحدة مجتمعاتنا، وهذا أمر ملاحظ في العديد من الدول التي باتت تتسع فيها الخلافات الداخلية إلى المستوى الذي حمل فيه السلاح، وشنت المعارك والغارات المتبادلة، ومما لا شك فيه أن هذا لن يخدم مصلحة الوطن بكل أطيافه، مهما سقنا المبررات وانتظمت لدينا الأسباب لشن الخلاف وتأسيس الخصومة السياسية.
وهكذا فأمام هذه الظروف والواقع يصبح من المهم أن نعيد بناء ذاكرتنا الحاضرة بذكر بعض خبراتنا التاريخية التي واجهنا فيها احترابا وخلافا داخليا، وتفيدنا هذه الخبرة بأن هناك طرفا رجح المؤرخون صواب موقفه وصحة حكمه وهو الحسن رضي الله عنه، ولكنه لم يتشبث بكل ذلك كمبررات لرفض المصالحة، بل تجاوز كل التوقعات بأن قاد بنفسه مبادرة المصالحة الوطنية مع أهل الشام، والتي ترتبت عليها هذه الوحدة السياسية والجغرافية والإدارية والأمنية.
ولم يحاول الحسن وكبار الصحابة الموجودين في ذلك العصر أن يخوضوا في مسألة الأولى بتولي الزعامة والقيادة السياسية لدولة المسلمين، بل التفتوا إلى مصالح أهم من ذلك تمثلت في إعادة بناء وحدة الأمة ولحمتها تحت قيادة قوية تمثلت في ذلك الزمن في معاوية رضي الله عنه. وهذا يلقي علينا اليوم مسؤوليات كبيرة تجاه الوطن، ويجعل مسائل الحفاظ على لحمة مجتمعنا وهويته، وإقامة العدل وتحقيق المساواة وحماية الحريات هي أولويات خطاب وتطبيقات المصالحة، بعيدا عن أي تنازع سياسي يحاول فيه كل طرف أن يثبت أحقيته في الحكم، بل الأولى اليوم أن نتوافق على بناء الوطن وإرجاع الحقوق وبناء دولة القانون وتربية المواطن الصالح المتعلم والمتدرب على قيم العدل والحرية والشورى.
بالتأكيد تحرص الأطراف في كل خلاف أن تتوزع التهم بين ظالم ومظلوم، ومن يملك الشرعية ممن يفتقدها، ولكن فقه المصالحة يقتضي ابتعادا عن كل ذلك، والتغاضي عن الجراح لأجل معالجة أعم وأشمل لصالح المجتمع والدولة.
ثانيًا: عودة الفتوحات إلى ما كانت عليه
لقد كانت من أهم الأعمال التي انطلقت منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم وحتى مقتل عثمان رضي الله عنه حركة الفتوحات العظيمة التي حملت الإسلام للناس لا لتكرههم على اعتناقه بل لتمهد له البيئة الصالحة التي يقدم فيها أمام الإنسانية، وكانت النتيجة أن دخل الناس في دين الله أفواجا.
ولقد مثلت فتنة اغتيال عثمان رضي الله عنه أكبر معوق أصاب الدعوة الإسلامية بعد حركة الردة في عهد أبي بكر رضي الله عنه، حيث أدى استشهاد عثمان إلى توقف الجهاد، واتجاه سيوف المسلمين إلى بعضهم في فتنة كادت تعصف بالأمة الإسلامية لولا أن تداركتها رحمة الله سبحانه وتعالى بمصالحة الحسن بن علي مع معاوية رضي الله عنهما، وقد امتلأت المصادر التاريخية بالنصوص التي تبين أثر الفتنة في انحسار حركة الجهاد (4).
وكان من نتائج المصالحة عودة حركة الفتوحات إلى ما كانت عليه وأصبحت تعمل في عهد معاوية على ثلاث جبهات رئيسية هي؛ جبهة الروم، وجبهة المغرب، وجبهة سجستان وخراسان وما وراء النهر.(5) وقد ترك معاوية معالم واضحة في سياسته الخاصة بالفتوحات وحركة الجهاد، فقد كان من آخر ما وصى به: "أن شُدوا خناق الروم، فإنكم تضبطون بذلك غيرهم من الأمم.
إن توقف حركة الفتوحات يدل على مدى الأزمة التي تنجر إليها الدولة والمجتمع عندما تنقسم القوى، وتتعارض الإرادات، وتستبد بالأمر بعضها دون الآخر، ومن أخطر ما تواجهه أي دولة وليدة كانت أم عريقة المشكلة الأمنية خصوصا إذا كانت داخلية تتمثل في انقسام كبير داخل المجتمع حول المسائل الأساسية في الدولة، والأوضاع الأمنية تؤثر سلبا في حال تدهورها على كل معطيات الحياة واتجاهاتها، وهذا ما شاهدناه في الخلاف الذي سيطر على المجتمع المسلم منذ اغتيال عثمان وحتى المصالحة بين الحسن ومعاوية رضي الله عنهم.
وهنا يظهر بوضوح أهمية مبادرات المصالحة، فبالمصالحة تعود بالدولة والمجتمع إلى العافية، وتنطلق في عملية نهضوية واسعة وعميقة، وتنمو الموارد، وتخف الحالة الأمنية المتوترة، ويعاد بناء الأولويات في الدولة، وتقسم الميزانيات في اتجاه برامج تنموية مدنية ولو كان فيها جانب أمني فسيتركز على بناء وتعزيز الأمن القومي للدولة، والذي يبدأ في تطوير ثقافة الوحدة والتجانس والتعايش داخل المجتمع.
إن المصالحة التي ننشد اليوم، ونستشرف آفاقها ونتلمس جذورها، لن تقوم في معزل عن حوارات ومراجعات كبرى؛ تكون ركيزتها صياغة عقد اجتماعي واضح المعالم، يبين الحقوق ويرعاها، ويحفظ الواجبات وينميها، ويكفل الالتزام القانوني الذي يشعر فيه المواطن بأن الدولة في خدمته، وأن ولاية الإدارة السياسية في يده، وأن البلد وطنه؛ يترسم فيه بانتماء راسخ، خطى المواطنة وحقوقها.
لابد لنا اليوم من إيجاد صيغة دستورية واضحة المعالم، تبين الحقوق وتحفظها وتسرد الواجبات وتكفل الالتزام بها.. لقد مررنا في وطننا باختناقات عديدة على المستوى السياسي والثقافي والتربوي والاقتصادي والحقوقي، ونحن اليوم أحوج ما نكون لبلورة مشروع مصالحة وطنية لا تستثني أحداً من الأبناء، لعلنا ننطلق في البناء، ونتراجع عن الهدم المتواصل.
ثالثًا: تحقيق الأمن الداخلي
عطفا على المسألة الأمنية خاصة في جانبها الداخلي فإننا نلحظ كيف أن الدولة والمجتمع توحدا وتفرغا لمواجهة حركة تمرد واسعة تمثلت في الخوارج، وبلا الوقوف على تفاصيل الخطط والتطبيقات العسكرية لردع الخوارج، فقد ترتبت على المصالحة التضييق والتصدي للخوارج، واتسمت حركة الخوارج في عهد معاوية بالعشوائية والارتجال وقلة التنظيم، وكانت أشبه ما يكون بعمليات انتحار جماعي، لأنهم يخرجون بفئات قليلة لا تلبث أن تستأصل، خاصة مع استبعادهم لأسلوب الحوار والمناظرة في دعوتهم، ومحاولة فرض فكرهم على المجتمع المسلم بالقوة، وعدم دخولهم في المصالحة الوطنية التي أنهت الاقتتال الداخلي في الأمة.
وقد كان للمفكرين والعلماء دورهم الحاسم في التنظير لخطورة فكر الخوارج واستخدام العنف ضد الدولة والمجتمع، وهو ما منح تحرك الدولة شرعية في مجابهة حركات الخروج المتكررة حتى أتمت القضاء عليها، ورجوع الكثير منهم إلى القبول بالاختلاف الفكري والانخراط في حركة علمية ثرية شاركت فيها كل الأفكار والمذاهب.
وفي واقعنا اليوم نجد أن العديد من أوطاننا ليست بعيدة عن مواجهات قادمة، رأينا أمثلة لها في دول المغرب العربي، ولكن لمواجهة هذا العنف لابد من دولة يلتف حولها مجتمعها، ولحدوث ذلك لابد من مصالحة داخل الوطن تنهي حالة الاحتقان، وتقطع الطريق على أي محاولات لاستغلال أوضاع سياسية أو اقتصادية أو ثقافية غير طبيعية، وذلك بالحوار والمصالحة وإصلاح تلك الأوضاع بحلول وإجابات تنطلق من صعوبة الواقع وليس فقط تجريد الأفكار.
رابعا: بروز النهضة العلمية في المدينة بعد المصالحة
لقد ترك الحسن الكوفة بعد تنازله لمعاوية ورجع بمن معه من أصحابه وبني هاشم إلى المدينة واستقر بها، وكان الهاشميون محل الإجلال والتكريم والاحترام من معاوية، وكانت زعامتهم عند الحسن بن علي، وكانت المدينة في تلك الفترة يسكنها عدد كبير من علماء الصحابة يضاف إليهم عدد من التابعين ممن تتلمذوا على أيدي الصحابة العلماء، وساروا بسيرتهم ونهجوا نهجهم، وهؤلاء كانوا خليطًا من المهاجرين والأنصار ومن غير المهاجرين والأنصار وغيرهم، وقد نتج عن المصالحة استقرار أدى إلى حدوث نهضة علمية واسعة خصوصا في رواية الحديث النبوي. ودخل آل بيت النبي صلى الله وسلم والصحابة فيما دخلت فيه الأمة لا ينزعون يدًا من جماعة، ومن هؤلاء عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله (6). كانت أجواء المدينة خيرًا على الحياة العلمية، حيث تفرغ طلاب العلم فيها لرواية الحديث، وتفسير القرآن، واستنباط الأحكام الفقهية، فقصدها الناس من أجل العلم، فقد كان بها الهدوء والاطمئنان الذي يساعد على العلم والبحث (7)، فقصدها الناس من أجل العلم والتزود بالمعرفة، في أجواء الأمن والأمان والاستقرار والوحدة.
---------------------------------------------------------
(1) مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري، صـ (167).
(2) الفصل (5/ 6).
(3) صحيح البخاري كتاب الفتن
(4) انظر كتاب الحسن بن علي للصلابي حيث أورد الكثير من هذه الأقوال
(5) يقصد بمصطلح ما وراء النهر تلك البلاد الواقعة وراء نهر جيحون.
(6) تاريخ الطبري (6/ 80)، المدينة في العصر الأموي، شراب صـ (84).
(7) المدينة في العصر الأموي، شراب، صـ (62).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق