- بلادى توداى
- 3:13 م
- تحليلات هامة
- لا توجد تعليقات
سادت في الدول الغربية توجهات سلبية لدى الحكومات نحو الحركة الإسلامية عامةً، فقد نُظر إليها بوصفها حركة تحمل رؤيةً فكريةً تختلف عن الرؤية الغربية السائدة.
وأصبح يُنظر لها من واضعي السياسة الغربية، بأنها حركات لا توجد بينها وبين الغرب قيم مشتركة؛ أي أنها لا تشارك الغرب في قيمة السياسة الأساسية.
وتلك نظرةٌ في جوهرها تُعبِّر عن الحقيقة، فالقيم السياسية الغربية تختلف عن القيم السياسية الإسلامية، ولكن السياسي الغربي يهتم بوجود قيم مشتركة مع الأنظمة الحاكمة في البلاد العربية والإسلامية؛ لأن تلك القيم المشتركة تمثل بالنسبة له أساسًا للتحالف مع تلك الحكومات، ولكن رغبة الدول الغربية في وجود حكومات تتحالف مع الغرب في المنطقة العربية والإسلامية، تفوق رغبته في انتشار قيمه في المنطقة، فإن لم تقم الحكومات على القيم السياسية الغربية، وتحالفت مع الغرب، فإن هذا كافٍ بالنسبة له، ولكن التيارات التي لا تحمل قيمًا غربية، ولا تشارك الغرب في أسس نظريته السياسية، ولا تميل للتحالف مع الغرب، فهي تمثل بالنسبة للغرب عدوًا محتملاً.
والناظر إلى الحكومات المتحالفة مع الغرب في المنطقة العربية والإسلامية، يجد أنها تنتمي بدرجات مختلفة للقيم العلمانية، رغم أن غالبها علماني مستبد وليس ديمقراطيًّا.
وهذا في حدِّ ذاته يحقق المطالب الغربية، ولو جزئيًّا.
فالدول الغربية تريد حكومات متحالفة معها، وتشاركها في القيم السياسية أو بعضها، ولم يعرف القاموس السياسي الغربي شكلاً للتعاون الدولي، خارج إطار التحالف القائم على التبعية، فالسياسة الغربية ترى ضمنًا أن كل حكومة مستقلة عنها، حتى وإن تعاونت على المستوى الدولي مع الغرب، هي في النهاية خارج إطار الهيمنة الغربية، وبالتالي فهي قادرةٌ على مخالفة المصالح أو السياسات الغربية، وهي بهذا عدو محتمل.
تلك النظرة لم تختلف كثيرًا عن نظرة الحكومات المتحالفة مع الغرب في المنطقة العربية والإسلامية، والتي رأت أن الحركة الإسلامية ليست فقط عدوًّا محتملاً، بل هي عدو حاضر ومتحقق، فقد نظرت الحكومات للحركة الإسلامية بوصفها حركة شعبية، تمتلك رصيدًا شعبيًّا واسعًا، وهذا الأمر- في حدِّ ذاته- يعني أنها قادرة على التأثير على الرأي العام وتوجيهه، ولذا فهي قادرة أيضًا على حشد الرأي العام ضد الحكومات؛ لذا أصبحت الحركة الإسلامية عدوًا سياسيًّا لأنظمة الحكم القائمة، بسبب أنها حركات شعبية تملك رصيدًا جماهيريًّا يتيح لها الوقوف أمام النظم الحاكمة، بقوة الرأي العام.
والتيار الإسلامي يقدم رؤية مختلفة عن تلك الرؤية التي تحملها الحضارة الغربية، ويحمل أيضًا مشروعًا للاستقلال الحضاري الشامل، وهو بهذا يعادي الهيمنة الغربية؛ لذا أصبح التيار الإسلامي ممثلاً لبديل مختلف عن مشروع الهيمنة الغربية، ومشروع الالتحاق بالمجال الغربي السياسي، ومثَّل حركة استقلال عميقة؛ أي حركة استقلال حضاري شامل، فأصبحت الدول الغربية في عمومها لا ترغب في رؤية الحركة الإسلامية في مقاعد الحكم في أي بلدٍ عربي أو إسلامي، وأصبحت الأنظمة الحاكمة تحاول حصار الحركة الإسلامية، حتى لا تصبح بديلاً شعبيًّا عنها، وتوافق الغرب مع حلفائه في المنطقة على التصدي للحركة الإسلامية؛ مما جعلهما يتوافقان أيضًا على التصدي لجماعة الإخوان المسلمين خاصة، فلماذا؟
التيار المنتشر
منذ اللحظة الأولى لبدايات حركة الإخوان المسلمين، بدأ الإمام حسن البنا في النظر إلى أهمية نشر رؤية الجماعة في مختلف الدول العربية والإسلامية، ففكرة الأمة كانت حاضرةً منذ اللحظة الأولى، والمشروع الإسلامي الذي تحمله جماعة الإخوان، يخص كل جماهير الأمة الإسلامية في كل أوطانها؛ لذا بنت جماعة الإخوان مشروعها على تشكيل تيار ممتد في كل الدول العربية والإسلامية، ثم امتد مع المهاجرين إلى العديد من الدول الغربية، وبقية دول العالم، حتى بلغ مساحةً من الانتشار تجعله حاضرًا في مساحة واسعة من العالم.
هذا الانتشار الواسع لجماعة الإخوان المسلمين، وأيضًا للجماعات التي تحمل رؤية الجماعة ولا تنتمي لها مباشرةً؛ شكَّل تيارًا متجانسًا إلى حدٍّ كبير، يحمل مشروعًا له منهجه وتوجهاته، ويؤثر في الملايين حول العالم، خاصةً في البلاد العربية والإسلامية؛ لذا أصبحت جماعة الإخوان المسلمين، تمثل مدرسة لها أسس منهجيه ثابتة، مما جعلها تمثل تيارًا شعبيًّا قويًّا ومؤثرًا.
ومثَّل هذا تحديًا للقوى الغربية والأنظمة المتحالفة معها؛ لأن هذا الانتشار الواسع لمدرسة الإخوان شكَّل تيارًا عابرًا للحدود والقوميات، وأصبح يمثل قطاعًا مهمًّا من الأمة.
ومع هذا الانتشار، أصبحت حركة الإخوان تمثل أحد المحاولات المهمة للتوفيق بين جماهير الأمة، وبناء تيار قاعدي يمثل قطاعًا مركزيًّا في الأمة، وبالتالي يعمل على توحيد الأمة داخل إطار مشروع للنهضة الحضارية الشاملة.
ولأن كل سياسات الهيمنة التي تتعرض لها الأمة من الدول الغربية والأنظمة الحاكمة تعتمد على تفريق الأمة داخل قوميات وفرق؛ لذا فقد مثل تيار الإخوان حركة في الاتجاه المضاد لعملية تفريق الأمة، فأصبح نواةً لوحدة الأمة، من خلال توحيد تيار مركزي داخلها يعمل على توحيدها تدريجيًّا.
التيار المنظم
اعتمدت جماعة الإخوان المسلمين منذ البداية على بناء التنظيم بوصفه الوسيلة الأساسية لتحقيق أهدافها، فلم تتحول إلى تيارٍ فكري فقط، بل أصبحت تيارًا تنظيميًّا قويًّا.
وتلك كانت واحدةً من الأسس المنهجية للجماعة عبر تاريخها؛ حيث رأت أن التنظيم يحول الفكرة إلى عمل تنفيذي جماعي؛ ما يكسبها قوتها الحقيقية.
والفكرة الإصلاحية الحضارية تعتمد في قوتها على التأييد الجماهيري؛ لذا يعد التنظيم ممثلاً للأداة الجماهيرية التي تحوِّل التأييد الشعبي إلى قوة منظمة، ولم يغب عن الدول الغربية والأنظمة الحاكمة المتحالفة معها، خطورة التنظيم، بل رأت أن التنظيم يمثل خطرًا عليها أكثر من الفكرة؛ لأن الفكرة يمكن أن تنتشر، ولكن يمكن أن يصيبها الوهن، كما يمكن أن يصيبها التفكك، أو يصيبها التردد والاختلاط والاضطراب، مع محاولات اختراقها التي تمارسها القوى المهيمنة، ولكن الفكرة التي تتحول إلى تنظيم، وينتشر هذا التنظيم عبر الدول، ويعتمد منهجًا لحماية الفكرة، كما يعتمد منهجًا لتنظيم الجماهير المؤيدة للفكرة داخل إطار مؤسسي، تمثل بنية صلبة قادرة على البقاء، وقادرة على التصدي لكل عمليات الاختراق، وكل عمليات التدمير والحصار؛ ما يُمكِّنها من البقاء، ويُمكِّنها من الانتشار والتوسع.
فأصبح التنظيم الواسع الممتد، يمثِّل عقبةً أمام القوى التي تريد حصار نشاط وتأثير جماعة الإخوان المسلمين، كما اعتمدت جماعة الإخوان المسلمين على منهجية لبناء التنظيم القوي المحكم، وأصبحت دقة التنظيم أحد سماته البارزة، فأصبحت تشكل كتلة جماهيرية صلبة ومنظمة، وتؤمن بفكرةٍ محددة، ولها انتشارها الواسع، فأصبحت تمثل حائط صد أمام المشروع المعادي لها، أي مشروع الالتحاق بالغرب، وبهذا أصبحت العدو الأول لمشروع الهيمنة الغربية.
الجهاد في فلسطين
لم يكن إدراك الإمام حسن البنا لأهمية مواجهة الخطر الصهيوني في فلسطين، إلا قراءة مبكرة لمعركة الأمة الأولى والأساسية، وهي ليست المعركة الأساسية بالنسبة للأمة الإسلامية فقط، بل هي أيضًا المعركة الأساسية بالنسبة للغرب أيضًا، فقد أقام الغرب دولة الاحتلال الصهيوني في فلسطين، حتى تكون النواة الصلبة التي تقوم بحماية المشروع الغربي في المنطقة، والتي تحافظ على تفكك الدول العربية والإسلامية، وتمنع وحدة الأمة الإسلامية السياسية، وتحافظ على النمط القومي القطري، وتحمي الدول المتحالفة مع الغرب.
لقد بنى الغرب النواة الصلبة لحماية مصالحة من خلال تأييده ومساندته لدولة الاحتلال الصهيوني، ولكن في المقابل، وقبل بداية المشروع الصهيوني على الأرض، كان حسن البنا يبني النواة الصلبة التي تحمي الهوية الحضارية الإسلامية، وتبني الأمة الإسلامية الناهضة، وتبني الوحدة السياسية للأمة، كما تبني نهضة الأمة وتعيد دورها الحضاري التاريخي، وتعيد رسالتها الحضارية العالمية.
هكذا أصبحت المواجهة في أرض فلسطين هي بين النواة الصلبة للأمة ممثلةً في الحركة الإسلامية الجهادية، وفي قلبها حركة حماس الممثلة لجماعة الإخوان المسلمين؛ والنواة الصلبة التي تحمي المصالح الغربية في المنطقة ممثلةً في دولة الاحتلال الصهيوني؛ لذا يمكننا أن نتخيل ما يترتب على كل مواجهة تحدث في أرض فلسطين، ويمكننا أن نتخيل حالة الصدام بين دولة الاحتلال الصهيوني وحركة حماس وحركات المقاومة الإسلامية، خاصةً حركة الجهاد الإسلامي، فنحن بصدد المعركة الأساسية بين النواة الصلبة للمشاريع المتنافسة على المنطقة، أي مشروع الموالاة للغرب؛ ومشروع النهوض الحضاري الإسلامي.
وكل معركة تجري على أرض فلسطين تُمثِّل حلقةً من حلقات المواجهة بين مشروع الهيمنة الحضارية الغربية، ومشروع الاستقلال الحضاري الإسلامي، وكل لحظة انتصار يحققها أي طرف، تأتي على حساب الطرف الآخر، بل وتعرقل مشروع الطرف الآخر في كل المنطقة، وبقدر تحقيق طرف لانتصار ما على أرض فلسطين، فهذا يمكنه من تحقيق انتصارات أخرى في بقية بقاع العالم العربي الإسلامي؛ لذا تصبح المعركة على أرض فلسطين هي في جوهرها معركة لقيادة الأمة الإسلامية، فهي المعركة الرمزية والفعلية في نفس الوقت لفرض الهيمنة على الأمة الإسلامية من قبل الدول الغربية وحلفائها، وفي نفس الوقت هي معركة تحرير الأمة الإسلامية وبناء مشروعها الخاص للنهضة.
الدور المركزي لجماعة الإخوان المسلمين في قضية فلسطين، كان وما زال من أهم الأسباب التي تدفع الغرب لاعتبار جماعة الإخوان المسلمين خطرًا محتملاً، وعدوًا محتملاً، بل ويعتبرها تمثل السند العميق لحركة المقاومة في فلسطين.
وكما تدرك جماعة الإخوان المسلمين أن معركة فلسطين هي معركة الأمة الأولى، تدرك الأنظمة الحاكمة أيضًا أن معركة فلسطين أصبحت تمثل المعركة الأساسية التي سوف تحدد مستقبل أنظمة الحكم في العالم العربي والإسلامي، فكل الدول والأنظمة التي تنازلت عن تحرير فلسطين، تدرك أنها سوف ترحل إذا رحلت دولة الاحتلال الصهيوني؛ فقد ترابطت الخطوط بين العدو الصهيوني والدول الغربية الراعية له، والأنظمة الحاكمة المتحالفة مع الغرب في المنطقة العربية والإسلامية؛ بحيث أصبح مصير الكل مترابطًا أيضًا، وجماعة الإخوان المسلمين، ومعها التيار الإسلامي، تُدرك أن تحرير القدس وكل أرض فلسطين واجب على كل الأمة وشرط من شروط نهضتها، فلا يمكن لأمة أن تنهض قبل أن تتحرر.
الاعتدال الخطر
مرت تجربة جماعة الإخوان المسلمين بالعديد من التحديات، والتي تبلورت في النهاية في منهجية للحفاظ على اعتدال الجماعة، وكل الجماعات المنتمية لها، فكلما مالت يمينًا أو يسارًا، نجدها تعود لاعتدالها مرةً أخرى.
وقد حاولت الجماعة منذ تأسيسها أن تمثل الفكرة السائدة والغالبة في فكر أهل السنة والجماعة، وحاولت أن تمثل التيار المعتدل والسائد بين أهل السنة والجماعة، وحاولت أن تكون إطارًا واسعًا لكل روافد الفكرة الإسلامية الوسطية المعتدلة، كل تلك المحاولات جعلت الجماعة تشكل اعتدالها وتنشره في المجتمع، ثم تتفاعل إيجابيًّا مع المجتمع، وكأنها تعمل ضمنًا على تشكيل التيار السائد والمتفق عليه بين الناس، فأصبحت تمثل حالةً عامةً وسائدةً في المجتمع، وتمثل الفكرة الشائعة بين أبناء الأمة، ولم تتحول إلى حالة خاصة، أو فريق أو مذهب، بل ظلت إطارًا جامعًا للفكرة الإسلامية في إطارها العام السائد عبر تاريخ الأمة الإسلامية.
وكلما أمعنت الجماعة في اعتدالها، أصبحت تمثل خطرًا أكبر على القوى المناهضة لها؛ لأنها تتحول لفكرة لها قبول واسع، ويصعب حصارها في خانة الإفراط أو التفريط، ورغم أن التشدد أحيانًا يساعد على اكتساب أرض واسعة، خاصةً في لحظات المواجهة مع الخطر الخارجي والغزو الحضاري، إلا أن الجماعة ظلت تحافظ على اعتدال موقفها نسبيًّا، وبقدر ما تستطيع حتى تظل حالةً عامةً منتشرةً، وحتى تظل مشروعًا لا يعبر فقط عن لحظة، خاصةً إذا كانت لحظة غضب، بل يظل مستمرًّا مع الأمة عبر تاريخها؛ لذا تخلصت الجماعة من أي لحظة غضب أصابتها أو أصابت جزءًا منها وأدَّت إلى تشدد بعض المواقف، وتخلصت من أي لحظة مرونة تدفعها إلى خارج إطار فكرتها، حتى تُبقي صورتها الأساسية بوصفها تُعبِّر عن الفكرة الأساسية السائدة في تاريخ الأمة، والتي تُعبِّر عن نقطة الاعتدال داخل المرجعية الحضارية الإسلامية، وهو ما مثَّل خطرًا في وجهة نظر القوى المعادية لفكرة الاستقلال الحضاري للأمة الإسلامية؛ لأن هذه المنهجية أدَّت إلى قيام تيار قادر على البقاء والتكيف مع ظروف العصر، والحفاظ على ثوابته، فأصبح تيارًا مستمرًّا، لا يرتبط بلحظة تاريخية معينة، ولا يمكن اختراقه.
هكذا أصبحت جماعة الإخوان المسلمين في المواجهة مع مشروع فرض الهيمنة الحضارية الغربية على المنطقة العربية والإسلامية، وأصبح ينظر لها أنها تمثل النواة الصلبة للتيار الإسلامي، وحائط الصد الرئيسي أمام المشاريع الغربية.
وأصبح يُنظر لها من واضعي السياسة الغربية، بأنها حركات لا توجد بينها وبين الغرب قيم مشتركة؛ أي أنها لا تشارك الغرب في قيمة السياسة الأساسية.
وتلك نظرةٌ في جوهرها تُعبِّر عن الحقيقة، فالقيم السياسية الغربية تختلف عن القيم السياسية الإسلامية، ولكن السياسي الغربي يهتم بوجود قيم مشتركة مع الأنظمة الحاكمة في البلاد العربية والإسلامية؛ لأن تلك القيم المشتركة تمثل بالنسبة له أساسًا للتحالف مع تلك الحكومات، ولكن رغبة الدول الغربية في وجود حكومات تتحالف مع الغرب في المنطقة العربية والإسلامية، تفوق رغبته في انتشار قيمه في المنطقة، فإن لم تقم الحكومات على القيم السياسية الغربية، وتحالفت مع الغرب، فإن هذا كافٍ بالنسبة له، ولكن التيارات التي لا تحمل قيمًا غربية، ولا تشارك الغرب في أسس نظريته السياسية، ولا تميل للتحالف مع الغرب، فهي تمثل بالنسبة للغرب عدوًا محتملاً.
والناظر إلى الحكومات المتحالفة مع الغرب في المنطقة العربية والإسلامية، يجد أنها تنتمي بدرجات مختلفة للقيم العلمانية، رغم أن غالبها علماني مستبد وليس ديمقراطيًّا.
وهذا في حدِّ ذاته يحقق المطالب الغربية، ولو جزئيًّا.
فالدول الغربية تريد حكومات متحالفة معها، وتشاركها في القيم السياسية أو بعضها، ولم يعرف القاموس السياسي الغربي شكلاً للتعاون الدولي، خارج إطار التحالف القائم على التبعية، فالسياسة الغربية ترى ضمنًا أن كل حكومة مستقلة عنها، حتى وإن تعاونت على المستوى الدولي مع الغرب، هي في النهاية خارج إطار الهيمنة الغربية، وبالتالي فهي قادرةٌ على مخالفة المصالح أو السياسات الغربية، وهي بهذا عدو محتمل.
تلك النظرة لم تختلف كثيرًا عن نظرة الحكومات المتحالفة مع الغرب في المنطقة العربية والإسلامية، والتي رأت أن الحركة الإسلامية ليست فقط عدوًّا محتملاً، بل هي عدو حاضر ومتحقق، فقد نظرت الحكومات للحركة الإسلامية بوصفها حركة شعبية، تمتلك رصيدًا شعبيًّا واسعًا، وهذا الأمر- في حدِّ ذاته- يعني أنها قادرة على التأثير على الرأي العام وتوجيهه، ولذا فهي قادرة أيضًا على حشد الرأي العام ضد الحكومات؛ لذا أصبحت الحركة الإسلامية عدوًا سياسيًّا لأنظمة الحكم القائمة، بسبب أنها حركات شعبية تملك رصيدًا جماهيريًّا يتيح لها الوقوف أمام النظم الحاكمة، بقوة الرأي العام.
والتيار الإسلامي يقدم رؤية مختلفة عن تلك الرؤية التي تحملها الحضارة الغربية، ويحمل أيضًا مشروعًا للاستقلال الحضاري الشامل، وهو بهذا يعادي الهيمنة الغربية؛ لذا أصبح التيار الإسلامي ممثلاً لبديل مختلف عن مشروع الهيمنة الغربية، ومشروع الالتحاق بالمجال الغربي السياسي، ومثَّل حركة استقلال عميقة؛ أي حركة استقلال حضاري شامل، فأصبحت الدول الغربية في عمومها لا ترغب في رؤية الحركة الإسلامية في مقاعد الحكم في أي بلدٍ عربي أو إسلامي، وأصبحت الأنظمة الحاكمة تحاول حصار الحركة الإسلامية، حتى لا تصبح بديلاً شعبيًّا عنها، وتوافق الغرب مع حلفائه في المنطقة على التصدي للحركة الإسلامية؛ مما جعلهما يتوافقان أيضًا على التصدي لجماعة الإخوان المسلمين خاصة، فلماذا؟
التيار المنتشر
منذ اللحظة الأولى لبدايات حركة الإخوان المسلمين، بدأ الإمام حسن البنا في النظر إلى أهمية نشر رؤية الجماعة في مختلف الدول العربية والإسلامية، ففكرة الأمة كانت حاضرةً منذ اللحظة الأولى، والمشروع الإسلامي الذي تحمله جماعة الإخوان، يخص كل جماهير الأمة الإسلامية في كل أوطانها؛ لذا بنت جماعة الإخوان مشروعها على تشكيل تيار ممتد في كل الدول العربية والإسلامية، ثم امتد مع المهاجرين إلى العديد من الدول الغربية، وبقية دول العالم، حتى بلغ مساحةً من الانتشار تجعله حاضرًا في مساحة واسعة من العالم.
هذا الانتشار الواسع لجماعة الإخوان المسلمين، وأيضًا للجماعات التي تحمل رؤية الجماعة ولا تنتمي لها مباشرةً؛ شكَّل تيارًا متجانسًا إلى حدٍّ كبير، يحمل مشروعًا له منهجه وتوجهاته، ويؤثر في الملايين حول العالم، خاصةً في البلاد العربية والإسلامية؛ لذا أصبحت جماعة الإخوان المسلمين، تمثل مدرسة لها أسس منهجيه ثابتة، مما جعلها تمثل تيارًا شعبيًّا قويًّا ومؤثرًا.
ومثَّل هذا تحديًا للقوى الغربية والأنظمة المتحالفة معها؛ لأن هذا الانتشار الواسع لمدرسة الإخوان شكَّل تيارًا عابرًا للحدود والقوميات، وأصبح يمثل قطاعًا مهمًّا من الأمة.
ومع هذا الانتشار، أصبحت حركة الإخوان تمثل أحد المحاولات المهمة للتوفيق بين جماهير الأمة، وبناء تيار قاعدي يمثل قطاعًا مركزيًّا في الأمة، وبالتالي يعمل على توحيد الأمة داخل إطار مشروع للنهضة الحضارية الشاملة.
ولأن كل سياسات الهيمنة التي تتعرض لها الأمة من الدول الغربية والأنظمة الحاكمة تعتمد على تفريق الأمة داخل قوميات وفرق؛ لذا فقد مثل تيار الإخوان حركة في الاتجاه المضاد لعملية تفريق الأمة، فأصبح نواةً لوحدة الأمة، من خلال توحيد تيار مركزي داخلها يعمل على توحيدها تدريجيًّا.
التيار المنظم
اعتمدت جماعة الإخوان المسلمين منذ البداية على بناء التنظيم بوصفه الوسيلة الأساسية لتحقيق أهدافها، فلم تتحول إلى تيارٍ فكري فقط، بل أصبحت تيارًا تنظيميًّا قويًّا.
وتلك كانت واحدةً من الأسس المنهجية للجماعة عبر تاريخها؛ حيث رأت أن التنظيم يحول الفكرة إلى عمل تنفيذي جماعي؛ ما يكسبها قوتها الحقيقية.
والفكرة الإصلاحية الحضارية تعتمد في قوتها على التأييد الجماهيري؛ لذا يعد التنظيم ممثلاً للأداة الجماهيرية التي تحوِّل التأييد الشعبي إلى قوة منظمة، ولم يغب عن الدول الغربية والأنظمة الحاكمة المتحالفة معها، خطورة التنظيم، بل رأت أن التنظيم يمثل خطرًا عليها أكثر من الفكرة؛ لأن الفكرة يمكن أن تنتشر، ولكن يمكن أن يصيبها الوهن، كما يمكن أن يصيبها التفكك، أو يصيبها التردد والاختلاط والاضطراب، مع محاولات اختراقها التي تمارسها القوى المهيمنة، ولكن الفكرة التي تتحول إلى تنظيم، وينتشر هذا التنظيم عبر الدول، ويعتمد منهجًا لحماية الفكرة، كما يعتمد منهجًا لتنظيم الجماهير المؤيدة للفكرة داخل إطار مؤسسي، تمثل بنية صلبة قادرة على البقاء، وقادرة على التصدي لكل عمليات الاختراق، وكل عمليات التدمير والحصار؛ ما يُمكِّنها من البقاء، ويُمكِّنها من الانتشار والتوسع.
فأصبح التنظيم الواسع الممتد، يمثِّل عقبةً أمام القوى التي تريد حصار نشاط وتأثير جماعة الإخوان المسلمين، كما اعتمدت جماعة الإخوان المسلمين على منهجية لبناء التنظيم القوي المحكم، وأصبحت دقة التنظيم أحد سماته البارزة، فأصبحت تشكل كتلة جماهيرية صلبة ومنظمة، وتؤمن بفكرةٍ محددة، ولها انتشارها الواسع، فأصبحت تمثل حائط صد أمام المشروع المعادي لها، أي مشروع الالتحاق بالغرب، وبهذا أصبحت العدو الأول لمشروع الهيمنة الغربية.
الجهاد في فلسطين
لم يكن إدراك الإمام حسن البنا لأهمية مواجهة الخطر الصهيوني في فلسطين، إلا قراءة مبكرة لمعركة الأمة الأولى والأساسية، وهي ليست المعركة الأساسية بالنسبة للأمة الإسلامية فقط، بل هي أيضًا المعركة الأساسية بالنسبة للغرب أيضًا، فقد أقام الغرب دولة الاحتلال الصهيوني في فلسطين، حتى تكون النواة الصلبة التي تقوم بحماية المشروع الغربي في المنطقة، والتي تحافظ على تفكك الدول العربية والإسلامية، وتمنع وحدة الأمة الإسلامية السياسية، وتحافظ على النمط القومي القطري، وتحمي الدول المتحالفة مع الغرب.
لقد بنى الغرب النواة الصلبة لحماية مصالحة من خلال تأييده ومساندته لدولة الاحتلال الصهيوني، ولكن في المقابل، وقبل بداية المشروع الصهيوني على الأرض، كان حسن البنا يبني النواة الصلبة التي تحمي الهوية الحضارية الإسلامية، وتبني الأمة الإسلامية الناهضة، وتبني الوحدة السياسية للأمة، كما تبني نهضة الأمة وتعيد دورها الحضاري التاريخي، وتعيد رسالتها الحضارية العالمية.
هكذا أصبحت المواجهة في أرض فلسطين هي بين النواة الصلبة للأمة ممثلةً في الحركة الإسلامية الجهادية، وفي قلبها حركة حماس الممثلة لجماعة الإخوان المسلمين؛ والنواة الصلبة التي تحمي المصالح الغربية في المنطقة ممثلةً في دولة الاحتلال الصهيوني؛ لذا يمكننا أن نتخيل ما يترتب على كل مواجهة تحدث في أرض فلسطين، ويمكننا أن نتخيل حالة الصدام بين دولة الاحتلال الصهيوني وحركة حماس وحركات المقاومة الإسلامية، خاصةً حركة الجهاد الإسلامي، فنحن بصدد المعركة الأساسية بين النواة الصلبة للمشاريع المتنافسة على المنطقة، أي مشروع الموالاة للغرب؛ ومشروع النهوض الحضاري الإسلامي.
وكل معركة تجري على أرض فلسطين تُمثِّل حلقةً من حلقات المواجهة بين مشروع الهيمنة الحضارية الغربية، ومشروع الاستقلال الحضاري الإسلامي، وكل لحظة انتصار يحققها أي طرف، تأتي على حساب الطرف الآخر، بل وتعرقل مشروع الطرف الآخر في كل المنطقة، وبقدر تحقيق طرف لانتصار ما على أرض فلسطين، فهذا يمكنه من تحقيق انتصارات أخرى في بقية بقاع العالم العربي الإسلامي؛ لذا تصبح المعركة على أرض فلسطين هي في جوهرها معركة لقيادة الأمة الإسلامية، فهي المعركة الرمزية والفعلية في نفس الوقت لفرض الهيمنة على الأمة الإسلامية من قبل الدول الغربية وحلفائها، وفي نفس الوقت هي معركة تحرير الأمة الإسلامية وبناء مشروعها الخاص للنهضة.
الدور المركزي لجماعة الإخوان المسلمين في قضية فلسطين، كان وما زال من أهم الأسباب التي تدفع الغرب لاعتبار جماعة الإخوان المسلمين خطرًا محتملاً، وعدوًا محتملاً، بل ويعتبرها تمثل السند العميق لحركة المقاومة في فلسطين.
وكما تدرك جماعة الإخوان المسلمين أن معركة فلسطين هي معركة الأمة الأولى، تدرك الأنظمة الحاكمة أيضًا أن معركة فلسطين أصبحت تمثل المعركة الأساسية التي سوف تحدد مستقبل أنظمة الحكم في العالم العربي والإسلامي، فكل الدول والأنظمة التي تنازلت عن تحرير فلسطين، تدرك أنها سوف ترحل إذا رحلت دولة الاحتلال الصهيوني؛ فقد ترابطت الخطوط بين العدو الصهيوني والدول الغربية الراعية له، والأنظمة الحاكمة المتحالفة مع الغرب في المنطقة العربية والإسلامية؛ بحيث أصبح مصير الكل مترابطًا أيضًا، وجماعة الإخوان المسلمين، ومعها التيار الإسلامي، تُدرك أن تحرير القدس وكل أرض فلسطين واجب على كل الأمة وشرط من شروط نهضتها، فلا يمكن لأمة أن تنهض قبل أن تتحرر.
الاعتدال الخطر
مرت تجربة جماعة الإخوان المسلمين بالعديد من التحديات، والتي تبلورت في النهاية في منهجية للحفاظ على اعتدال الجماعة، وكل الجماعات المنتمية لها، فكلما مالت يمينًا أو يسارًا، نجدها تعود لاعتدالها مرةً أخرى.
وقد حاولت الجماعة منذ تأسيسها أن تمثل الفكرة السائدة والغالبة في فكر أهل السنة والجماعة، وحاولت أن تمثل التيار المعتدل والسائد بين أهل السنة والجماعة، وحاولت أن تكون إطارًا واسعًا لكل روافد الفكرة الإسلامية الوسطية المعتدلة، كل تلك المحاولات جعلت الجماعة تشكل اعتدالها وتنشره في المجتمع، ثم تتفاعل إيجابيًّا مع المجتمع، وكأنها تعمل ضمنًا على تشكيل التيار السائد والمتفق عليه بين الناس، فأصبحت تمثل حالةً عامةً وسائدةً في المجتمع، وتمثل الفكرة الشائعة بين أبناء الأمة، ولم تتحول إلى حالة خاصة، أو فريق أو مذهب، بل ظلت إطارًا جامعًا للفكرة الإسلامية في إطارها العام السائد عبر تاريخ الأمة الإسلامية.
وكلما أمعنت الجماعة في اعتدالها، أصبحت تمثل خطرًا أكبر على القوى المناهضة لها؛ لأنها تتحول لفكرة لها قبول واسع، ويصعب حصارها في خانة الإفراط أو التفريط، ورغم أن التشدد أحيانًا يساعد على اكتساب أرض واسعة، خاصةً في لحظات المواجهة مع الخطر الخارجي والغزو الحضاري، إلا أن الجماعة ظلت تحافظ على اعتدال موقفها نسبيًّا، وبقدر ما تستطيع حتى تظل حالةً عامةً منتشرةً، وحتى تظل مشروعًا لا يعبر فقط عن لحظة، خاصةً إذا كانت لحظة غضب، بل يظل مستمرًّا مع الأمة عبر تاريخها؛ لذا تخلصت الجماعة من أي لحظة غضب أصابتها أو أصابت جزءًا منها وأدَّت إلى تشدد بعض المواقف، وتخلصت من أي لحظة مرونة تدفعها إلى خارج إطار فكرتها، حتى تُبقي صورتها الأساسية بوصفها تُعبِّر عن الفكرة الأساسية السائدة في تاريخ الأمة، والتي تُعبِّر عن نقطة الاعتدال داخل المرجعية الحضارية الإسلامية، وهو ما مثَّل خطرًا في وجهة نظر القوى المعادية لفكرة الاستقلال الحضاري للأمة الإسلامية؛ لأن هذه المنهجية أدَّت إلى قيام تيار قادر على البقاء والتكيف مع ظروف العصر، والحفاظ على ثوابته، فأصبح تيارًا مستمرًّا، لا يرتبط بلحظة تاريخية معينة، ولا يمكن اختراقه.
هكذا أصبحت جماعة الإخوان المسلمين في المواجهة مع مشروع فرض الهيمنة الحضارية الغربية على المنطقة العربية والإسلامية، وأصبح ينظر لها أنها تمثل النواة الصلبة للتيار الإسلامي، وحائط الصد الرئيسي أمام المشاريع الغربية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق