- بلادى توداى
- 12:26 م
- تحليلات هامة
- لا توجد تعليقات
ممدوح الشيخ
قراءة في كتاب"الدين والدولة في تركيا المعاصرة" التحول هو في عمومه انتقال من حال إلى حال، وبعض التحولات تكون عودة إلى الجذور وبعضها يكون انقطاعا عن الأصول والجذور، وبالتالي فإن إطلاق حكم أو وصف على تحول ما يقتضي بالضرورة تحديد "الأصيل" و"الطارئ"، فالبعض ينظر إلى راهن تركيا الكمالية بوصفه "الحالة الطبيعية" لتركيا من ناحية التنظيم السياسي الذي وضعه انقلاب كمال أتاتورك للعلاقة بين الدين والدولة، ومن ناحية الهوية التركية الجديدة كعلاقة مركبة بين الزمان والمكان والإنسان.
ولأن تركيا بدأت تتململ في محيط الجغرافيا وتنفض الغبار عن التاريخ فإن اللحظة التركية الراهنة جديرة بأن تشغل المتحمسين للتحول والمتخوفين منه على السواء.
وإذا كان الخطاب السياسي والتحليلي العربي قد واكبا المشهد التركي – إلى حد كبير – إلا أننا في حاجة إلى المعالجات التي تتسم بالاقتراب الواعي والعمق المعرفي، وهو ما يعطي أهمية حقيقية لكتاب صدر حديثا (2010م) عن مكتبة "جزيرة الورد" المصرية هو: "الدين والدولة في تركيا المعاصرة: صراع الإسلام والعلمانية" للدكتور كمال السعيد حبيب.
والكاتب ناشط سياسي إسلامي كان يوما الرجل الثاني في تنظيم الجهاد المصري، وأما الكتاب فهو في الأصل رسالة دكتوراه في العلوم السياسية عنوانها: "الإسلام والأحزاب السياسية في تركيا: دراسة حالة لحزب الرفاه (1983 – 1997)".
وينطلق حبيب من فرضية أن تركيا تشهد محاولة للتوفيق بين العلمانية والإسلامية والديموقراطية والحداثة وهو ما يجعل من المشروع الحديث عن "نموذج تركي" فالولايات المتحدة الأمريكية تسعى لخلق نموذج إسلامي بهذه المواصفات، لمواجهة نماذج إسلامية راديكالية أخرى تتبنى الصدام مع الغرب.
والكتاب محاولة لفهم ظاهرة الإحياء الإسلامي في إطار مغاير للنظريات الاجتماعية المادية التي تفترض أن المزيد من التحديث والعلمنة سيؤدي لاختفاء الدين.
وفي بلد يشكل المسلمون 99 % من سكانه وينص دستوره على أن العلمانية هي أيديولوجية الدولة يتحول "الدين السياسي" الذي تحاول النظم الثورية (وبينها الثورة الفرنسية والانقلاب الكمالي) أن تفرضه على مجتمعاتها "لخلق عالم أفضل"، إلى بديل عن الدين الإلهي الذي جاءت به الرسل؛ بل إن العلمانية تحولت إلى ما يشبه "الدولة الدينية" في تركيا.
تعبيرات متعددة
الفصل الأول: "الإسلام والتيارات الاجتماعية والفكرية في تركيا" يستهله الباحث باستشهاد ملفت يصف النجاح الكبير لحزب العدالة والتنمية في انتخابات 2002 بأنه "بداية جديدة لتركيا يقع الإسلام في القلب منها"، وقد انعكس التحول في انتقال التصويت من الأحزاب التقليدية لحزب جديد ذي جذور إسلامية طرح أسئلة جوهرية حول مستقبل تركيا وهويتها.
وللإسلام في تركيا تعبيرات متعددة عن الإسلام يمكن القول إنها أوجه لظاهرة واحدة، لكلٍ منها لون وتوجه ومنهج في التعاطي مع الواقع، لكنها جميعا تصدر عن موقف واحد من "الكمالية" باعتبارها خطرا يتهدد الإسلام.
وقد استطاعت هذه التيارات والقوى الاجتماعية والفكرية التي تتخذ من الإسلام قاعدة لمعارضة سياسات الدولة وحاضنة لحماية هويتها ووجودها من الاستئصال، أن تنتقل من الهامش إلى القلب عبر بناء نخبة إسلامية جديدة تداولت المواقع لتحل محل النخب العلمانية.
وهكذا تحول المشهد السياسي التركي من حصار الإسلام ومحاولة استئصاله في بداية القرن الماضي إلى محاصرة العلمانية الكمالية مطلع القرن الحادي والعشرين.
الصوفية
مثلت الطرق الصوفية القاعدة الاجتماعية للدولة العثمانية في بدايات تكوينها، وظلت مع تبلور مؤسسات الدولة تعبر عن "الإسلام الشعبي" بالتوازي مع "الإسلام الرسمي" وهو ما يؤكد الطبيعة التعددية للدولة العثمانية.
وأقدم الطرق الصوفية في تركيا وأكثرها انتشارا "الطريقة النقشبندية" (حوالي مليوني عضو) والنقشبندية يقدسون الدولة الإسلامية ويؤمنون بشعار: "نبدأ من الدولة".
وكنموذج للتأثير الكبير للنقشبندية يكشف الكتاب عن أن حزب "الوطن الأم" الذي يعتبر أهم حزب تركي بعد 1983، كان نتاج تشاور بين الشيخ أسعد جوشان والرئيس التركي توركوت أوزال كان الهدف منه في البداية تأسيس حزب إسلامي وانتهت المشاورة بينهما إلى ترجيح أن ذلك لن يكون في صالح مسلمي تركيا.
يذكر أن معظم السلاطين العثمانيين كانت لهم علاقات جيدة بالتصوف تراوحت بين التأييد والانتماء الفعلي في بعض الأحيان !!
من الاغتراب إلى الاختراق
ويرصد حبيب حقيقة أن لدى تركيا دائما الاستعداد لاستقبال الأفكار الإسلامية من خارجها، وبخاصة من مصر وإيران وباكستان وهو ما يعبر عنه قول مثقف تركي: "لو عطس عربي فإنها ستترجم إلى التركية"!
هذا التوجه نحو المحيط العربي الإسلامي هو تحول رئيس في المجال الجغرافي من التجربة الكمالية التي توجهت صوب أوروبا إلى "العثمانية الجديدة" التي تريد توجيه البوصلة نحو العالم العثماني التاريخي.
ويمثل الإسلام المرجعية الرئيسة للمثقفين الإسلاميين الذين يقفون ضد الدولة الكمالية وممارساتها الاستبدادية. وهم – في التحليل النهائي – يمارسون كفاحا يعتمد سياسة النفس الطويل في مواجهة "أصولية علمانية" تمارسها هذه الدولة.
وهم كذلك يواجهون معركة أفكار في مواجهة التيارات المادية المعادية للفكرة الإسلامية، وأهمهم: محمد عاكف رائد المدرسة الإصلاحية، ونجيب فاضل رائد المدرسة الإحيائية التركية، وسزائي قراقوج رائد المدرسة الحضارية، وعصمت أوزال صاحب أطروحة "النظام الإسلامي المستقل". وأخيرا، أحمد داوود أوغلو رائد المدرسة المؤسسية ورئيس معهد وقف العلوم والفنون وهو من مصانع الأفكار (Think Tank) التي كانت تمد صانع القرار بالرؤى الاستراتيجية، وقد مثـَّل تولي أوغلو لمنصب وزير الخارجية صعودا لهؤلاء المثقفين.
ما قبل الرفاه
في الفصل الثاني يناقش حبيب أحزاب ما قبل "الرفاه" في تركيا، وتنقسم إلى نمطين: الأول يمثله "حزب الشعب الجمهوري" الذي أسسه كمال أتاتورك وهيمن على الحياة السياسية بين 1923 و1946م وهو بالتالي نموذج للحزب الذي يعبر عن الأيديولوجيا الكمالية في صيغتها المتصلبة التي تعادي الدين وتكرس الشمولية والعسكرة في المجتمع والدولة.
وهذا النمط من الأحزاب يصل في تقديسه الكمالية إلى حد اعتبارها "الدين المدني" الذي كان يراد له أن يملأ الفراغ الناجم عن هدم كل البنى والمؤسسات التي عبرت عن الدين الإسلامي.
النمط الثاني: الأحزاب المحافظة التي يمثلها الحزب الديموقراطي برئاسة عدنان مندريس الذي حكم تركيا طوال عقد الستينات ثم حزب الوطن الأم الذي حكمها بعد انقلاب 1980.
وهذه الأحزاب طالبت باحترام القيم الإسلامية والتراث الحضاري للعثمانيين، وذلك عبر علمانية تحترم اختيارات المحكومين.
اللعبة السياسية
ولأن قواعد اللعبة السياسية والنظام الحزبي في تركيا لم تصمم لتتسع للأحزاب الإسلامية كان هناك رفض متكرر لهذه الأحزاب، و تسبب هذا في إرغام أربكان وأحزابه على الخروج من العملية السياسية.
وربما يكون فهم الجيل الثاني من الإسلاميين أو من يطلق عليهم "الإسلاميون الجدد" لطبيعة النظام النظام السياسي هو ما دفعهم لتبني أيديولوجيا "الديموقراطية المحافظة" ليكونوا تعبيرا عن الاستمرارية المتوافقة مع النظام التركي.
وقد بدأ انفراد الكمالية بحكم تركيا يتآكل فعليا عام 1946 عندما أعلن عصمت إينونو الحاجة إلى تعددية حزبية، وتأسس في ظل التحول الجديد الحزب الديموقراطي، وفي انتخابات 1950 حصل الحزب على 53 % مقابل 40 % لحزب الشعب الديموقراطي فأصبح عدنان مندريس رئيسا للوزراء وشغل المنصب حتى انقلاب 1960.
ورغم أن الحزب الديموقراطي لعب دورا لا يمكن إنكاره في الإحياء الإسلامي في تركيا فإن بعض أعضائه انفصلوا عنه بسبب ما اعتبروه غموضا في موقفه من الدين واستقالوا ليؤسسوا حزب الأمة الذي ضم التيار الديني داخل الحزب الديموقراطي.
وطالب الحزبان معا بإلغاء المبادئ الستة للكمالية من الدستور، وبسبب التوجهات الإسلامية الواضحة لحزب الأمة تم حله قبل انتخابات 1954 قبل أن يعاد تشكيله في العام نفسه باسم: "حزب الأمة الجمهوري" ليحصل على خمسة مقاعد في البرلمان.
الإسلام التركي
مثـَّل النجاح الكبير للحزب الديموقراطي في انتخابات 1950 – وبالتالي كسر احتكار حزب الشعب الجمهوري للحياة السياسية – الحدث الأهم على الإطلاق في تاريخ تركيا المعاصرة، ومثـَّل وصول عدنان مندريس للسلطة تحديا واضحا لسلطة البيروقراطية العسكرية ومصالحها، فهذه البيروقراطية العسكرية كانت تعتبر نفسها حامية الميراث الكمالي العلماني، وهو ما هدد هذا الموقع بإعلانه أن "الأمة التركية بكاملها هي الحارسة على الإصلاحات وعلى الجمهورية".
وكرد فعل لهذا التهديد بدأت جماعة صغيرة من الضباط عام 1954 في تعاطي السياسة، وفي 1957 بدأ التفكير في الانقلاب العسكري، وهو ما تم تنفيذه بالفعل عام 1960. وبعد إعدام عدنان مندريس وآخرين، أجريت عام 1961 انتخابات جديدة أعقبتها حقبة مضطربة انتهت بانقلاب عسكري جديد عام 1962.
وفي 1965 شهدت تركيا حالة من الاستقرار دشنها حصول حزب العدالة بقيادة سليمان ديميريل على الأغلبية. لكن النظام التركي بملامحه الحالية صيغت في هذه الفترة، فأصبح من المحظور احتكار حزب واحد من الأحزاب للحياة السياسية، ومنحت الصحافة والجامعة استقلالهما، وأنشئت محكمة دستورية، لكن النظام أصبح كله تحت وصاية "مجلس الأمن القومي" الذي كرس هيمنة الجيش على الدولة التركية.
وقد عمل الانقلابيون على إحياء مفهوم "تتريك الإسلام" أو بلورة ما يطلق عليه "الإسلام التركي" المتكيف مع مطالب الدولة التركية ورؤاها العلمانية. وهو ما عبر عنه جمال كورسيل قائد الانقلاب (الرئيس التركي الرابع) بقوله: "إن النهج الذي نتبعه سيوصلنا إلى اليوم الذي سيأتي فيه مطلب ترتيل القرآن والآذان باللغة التركية من أسفل، من الشعب نفسه".
التيار الوطني الإسلامي
شهدت البلاد خلال الستينات تحولات اجتماعية واقتصادية كبيرة جعلت الطلبة والعمال وصغار الفلاحين قوى اجتماعية جديدة فتحول حزب الشعب الجمهوري إلى اليسار ليحصل على أصواتها، وبتحوله إلى اليسار شهد انشقاقا تمثل في خروج التيار اليميني ليؤسس "حزب الثقة الجمهوري".
وخلال هذه التحولات لم يكن الإسلاميون منخرطين بشكل مباشر في العملية السياسية فاحتفظوا بمصداقيتهم، وشكل صعود أسهم نجم الدين أربكان في حزب العدالة استفزازا شديدا للعلمانيين الذين تخوفوا من ضغوط تمارس على سليمان ديميريل للتحول باتجاه الإسلام ولو جزئيا، فرفض ديميريل واتخذ إجراءات لوقف الطموح السياسي لأربكان ومنع ترشيحه في انتخابات 1969.
وقرر أربكان ترشيح نفسه كمستقل مع 26 من مؤيديه ونجحوا في الانتخابات ليشكلوا أكبر كتلة مستقلة في تاريخ البرلمان التركي.
وأسس أربكان وزملاؤه النواب حزب السلامة الوطني في 26 يناير 1971 معلنا أن هدفه استعادة المؤسسات الهامة في تركيا إلى أصحابها الأصليين بعد أن اغتصبت وسلمت إلى أيد غريبة وغير وطنية، وفي 20 مايو 1971 تم إغلاق الحزب بأمر المحكمة الدستورية العليا لانتهاكه المواد الدستورية المتعلقة بشخصية الدولة العلمانية.
أسس نجم الدين أربكان أيضا أحزاب: النظام الوطني (1970)– الرفاه (1983) – الفضيلة (1997). وعرف الفكر الذي قامت عليه هذه الأحزاب باسم: "الملي جوروش" أي الفكر الوطني تعبيرا عن تيار وطني يستند إلى منطلقات إسلامية، لكن حركة الملي جوروش تعرضت للانقسام لأول مرة بظهور "الإسلاميين التجديديين" الذين اختلفوا مع أساتذتهم "المحافظين" فظهر حزب العدالة والتنمية.
عقلنة الديموقراطية
كان ظهور حزب العدالة والتنمية (2001) ونجاحه الكبير نتاجا طبيعيا لفهم أكثر دقة لطبيعة للواقع التركي، وتأسس هذا الفهم على حقيقة أن النظام السياسي التركي قوامه الجيش والنظام الحزبي. لكن التحولات التي شهدتها تركيا عقب الحرب العالمية الثانية بالتوازي مع الضغوط الخارجية وبخاصة الأمريكية والبريطانية الهادفة لتوسيع الديموقراطية – جعلتها تقبل التحول باتجاه التعدد الحزبي.
وكانت المشكلة أن الديموقراطية التركية كانت تعبيرا عن القطاع الرأسي في الدولة ولم تتسع أفقيا، والنخبة البيروقراطية التي ورثت الكمالية ابتدعت ما أسمته "عقلنة الديموقراطية" حيث الحاجة إلى ساسة يتمتعون بالمسئولية والاستعداد للاستجابة لديموقراطية معقلنة ليس هدفها التوفيق بين الرؤى والمصالح المتعارضة.
والمتابع لحجم الضغوط الهائلة التي مارسها العسكر لمنع فوز حزب العدالة والتنمية بالانتخابات يدرك أن نجاحه كان انتصارا حاسما على دور العسكر في توجيه الحياة السياسية وفتح الباب أمام استعادة النظام عافيته الديموقراطية بعيدا عن "الديموقراطية المعقلنة" التي يضع شروطها العسكر وفق هندسة خاصة تعوق التطور الديموقراطي.
ويختم كمال حبيب دراسته بقوله : "إن تركيا التي يراد لها أن تكون نموذجا لانتصار العلمانية والحداثة على الإسلام إذا بها تستدير إلى قبلتها الحقيقية ومرفأها السرمدي لتقول إن الإسلام أقوى وأبقى".
إسلام أون لاين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق