- بلادى توداى
- 10:46 ص
- أبحاث ودراسات ، تحليلات هامة
- لا توجد تعليقات
د.علي الصلابي- إسماعيل القريتلي
توضيحات على تساؤلات وتعليقات القراء
ننهي في هذه المقالة التوضيحات التي كتبناها على ما ورد في تعليقات وتساؤلات القراء الكرام، وسنقتصر في التوضيحات على ملخصات لما ورد في تلك التساؤلات والتعليقات، على أن نفصل العديد منها في المقالات القادمة من سلسلة الثقافة الدستورية.
ثامناً: الجهاد في الإسلام
تناول القرآن الكريم الجهاد في مواطن كثيرة وتحدث عن أنواعه ، وأسبابه، وفضل وأهمية الجهاد في الإسلام لا يمكن إنكاره، أو محاولة التقليل من مكانته النظرية في مصادر الشريعة والتطبيقية طوال تاريخ المسلمين، ويكفي للوقوف على فضل الجهاد أن نقرأ قوله تعالى (لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيماً) النساء، فالمفاضلة وقعت في الآية الكريمة بين فريقين من المؤمنين كلاهما قادر على الخروج للجهاد، فكان للمجاهدين فضل ومقام أرفع ومنزلة أعلى عند الله تعالى.
وفي نفس الصدد نجد النبي صلى الله عليه وسلم قد مدح الجهاد والمجاهدين كقوله: " مثل المجاهد في سبيل الله - والله أعلم بمن يجاهد في سبيله - كمثل الصائم القائم، وتكفل الله للمجاهد في سبيله إن توفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه سالماً مع أجر أو غنيمة"، وفي حديث آخر أجاب صلى الله عليه وسلم بعد أن سئل أي الأعمال أفضل: (إيمان بالله ورسوله، قيل ثم ماذا؟ قال الجهاد في سبيل الله، قيل ثم ماذا ؟ قال حج مبرور).
ولا شك بأن الحرب لم تكن أمراً جديداً على البشرية قبل الإسلام، غير أن الإسلام نظم الجهاد والقتال ووضع له أخلاقاً ومبادئ، نذكر منها على سبيل المثال ما أوصى به أبو بكر الصديق رضي الله عنه قادة جيشه وهو يودعهم سائراً على قدميه مع الجيش: "لما بعث أبو بكر الجنود نحو الشام، يزيد بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وشرحبيل بن حسنة، جعل يوصيهم فقال: أوصيكم بتقوى الله.. اغزوا في سبيل الله فقاتلوا من كفر بالله، فإن الله ناصر دينه ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تجبنوا ولا تفسدوا في الأرض، ثم قال: ولا تعزقن نخلاً ولا تحرقنها، ولا تعقروا بهيمة، ولا شجرة تثمر، ولا تهدموا بيعة، ولا تقتلوا الولدان ولا الشيوخ ولا النساء، وستجدون أقواماً حبسوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما حبسوا أنفسهم له."
كما إن لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وصية مطولة، أرسلها إلى سعد بن أبي وقاص والجيش الذي معه نذكر طرفا منها: " أما بعد، فإني آمرك ومن معك بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي، من احتراسكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون على عدوهم بمعصية عدوهم الله.. ولا تقولوا إن عدونا شر منا، فلن يسلطوا علينا وإن أسأنا، فرب قوم سلط عليهم شر منهم، كما سلط على بني إسرائيل لما عملوا بمعاصي الله كفرة المجوس، (فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً)، فسألوا الله العون على أنفسكم، كما تسألونه على عدوكم.. وترفق بالمسلمين في مسيرهم، ولا تسير بهم سيراً يتعبهم، ولا تقصر بهم عن منزل الرفق بهم " ثم أوصى بحسن التعامل مع أهل الصلح والعهود مع المسلمين فقال: " ونح منازلهم –أي الجنود- عن قرى أهل الصلح، فلا يدخلها من أصحابك إلا من تثق به وبدينه، ولا يرزؤا أحداً من أهلها شيئاً، فإن لهم حرمة وذمة ابتليتم بالوفاء بها، كما ابتلوا بالصبر عليها، فكما صبروا لكم فوفوا لهم، ولا تستنصروا على أهل الحرب بظلم أهل الصلح.
ونحن لا تزال ذاكرتنا تزخر بقصص الجهاد في مختلف أوطان المسلمين، وليس ببعيد عنا ما قدمه أجدادنا من تضحيات جسام لأجل تحرير الوطن من سيطرة الاحتلال الإيطالي، والأمر نفسه يقال عن جهاد الجزائريين والمغاربة وغيرهم، وما نراه ونسمع عنه اليوم في فلسطين والعراق.
إننا نواجه اليوم بهجوم متواصل على مفهوم وتطبيق الجهاد من قبل مراكز قوى عالمية، في حين تمارس هي غزواً جائراً للعالم، تحتل فيه مقدرات شعوب ومواردها، وتمارس جرائم ضد الإنسانية، ولا نجد من كثير من مثقفينا رداً لهذا العدوان ببيان أسبابه وممارساته ضد الإنسانية، إننا نتوقع أن يتذكر شعبنا دائماً جهاد الأجداد فيعلو من قيمة حماية الوطن والذود عن الدين والعرض، ويعظم حريته فيكون لنا دستورنا الذي يبرز هذا الحق، ويعلي من دور الدفاع عن الأوطان ونصرة المظلومين.
تاسعاً: مكانة البشرية في المجتمع المسلم
لأن المقام لا يحتمل الإطالة، فإننا نكتفي بذكر حادثة انتصر فيها الله تعالى ليهودي تعرض لظلم من بعض المسلمين؛ حاولوا إقناع النبي الكريم بصدق قضيتهم وضعف قضية اليهودي فقط لكونهم مسلمين، وقد نزل أثناء محاولتهم إقناع النبي صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً، وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيماً، وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ، إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيماً، يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً، هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا) النساء.
إذا هذه الآيات الخمسة من سورة النساء نزلت لتبرئة يهودي اتهمه مسلمون بالسرقة، ولم يتعامل القرآن الكريم معه باعتباره من اليهود الذين لم يفتئوا يؤذون المسلمين؛ بسعيهم الدؤوب لتأليب المشركين عليهم في كل جزيرة العرب، وقدموا الدعم للمنافقين، بل تعامل معه باعتباره إنسانا يتعرض للظلم من بعض المسلمين فجاءت الآيات الكريمة حازمة وواضحة لم تجامل المسلمين باعتبار أن ضحية الظلم يهودي.. ربما خطر في بال البعض بأن مصلحة المسلمين في النيل منه لانتمائه لمجموعة شكلت مع مشركي قريش أشد الأعداء وألد الخصوم.
هكذا وفي حياة النبي الكريم يقرر الله تعالى بآيات في القرآن الكريم بأن العدل مسألة لا تقبل التبعيض أو القسمة، ولا يجوز فيها الكيل بمكيالين، وهو أمر لم تعهده البشرية من قبل، فعدو متربص بك متآمر عليك مخالف لك في الدين والعرق والثقافة.. لا يجوز معه إلا العدل والعدل الواضح.
لقد استدللنا بهذه الآيات لنؤكد لقرائنا الكرام بأن العدل وهو من أهم أسباب التعايش وأوضح سمة لقبول الآخر للعيش معك، ونختم الفقرة بقوله صلى الله عليه وسلم (ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة).
إننا مطالبون اليوم أكثر من أي وقت مضى بأن نقدم الإسلام للناس جميعاً مسلمين وغيرهم واضحاً جلياً، دون أي محاولة للتبرير أو الدفاع، بل إن شرح حقائق الإسلام كافية بأن تقنع كل من ألقى السمع حاضراً عقله صافياً قلبه، وإننا إذ نؤكد دائما على أهمية أن يكون الإسلام مرجعيتنا الثقافية، والأرضية التي يبنى عليها دستورنا ونصنا القانوني لعلمنا بما في الإسلام، من هذه الخصائص الإنسانية التي تحمي المخالف من جور الموافق.
عاشرا: التجنيد إلزامي أم اختياري
تدرس مسألة التجنيد ضمن مباحث السياسية الشرعية، وهي فرع في الفقه يختص بالنظر في المسائل المتعلقة بالدولة ابتداءً باختيار الحكومة، ومرورا بالعلاقات الدولية، والمسائل الأمنية والعسكرية.
وقد كان التجنيد في العهد النبوي طوعياً، وكان يشارك في الجهاد والعمليات العسكرية أغلب البالغين من الرجال، بل ولقد كان للنساء حضورهن المتميز والمستمر في الجهاد.
في الحقيقة، لا يوجد حكم محدد يتعلق بالتجنيد وتنظيم القوات المسلحة، وإنما تخضع تقديراتها لما تقرره القيادة السياسية بالتشاور مع أهل الاختصاص في الدولة، وتقدر من خلالها مدى الحاجة إلى التجنيد الإلزامي لحماية الدولة والقيام بالواجبات العسكرية والأمنية.
لقد ألزم سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه المسلمين بالتجنيد بعد أن علم بأن الفرس يعدون العدة ويتجمعون لاستئصال القوة القليلة من المسلمين الباقين في العراق، فأمر بالتجنيد الإجباري حيث تقضي الحاجة إلى مثل هكذا إجراء؛ ولذلك أمر المثنى رضي الله عنه، أن ينظر فيما حوله من القبائل ممن يصلح للقتال، ويقدر عليه فيأتي به طائعاً أو غير طائع، وهذا هو التجنيد الإجباري والنفير العام، الذي رآه عمر وكان أول من عمل به في الإسلام.
حادي عشر: المعاهدات مع الدول الأخرى
سوف لن نقف عند تبرير الموقف الثقافي للمسلمين تجاه الدول الأخرى، فإننا نعيش اليوم زمناً يتدخل فيه الأقوياء تحت حجج واهية في دولنا ودول أخرى، وتشعل الحروب في كل مكان بهدف السيطرة السياسية والاقتصادية، دون أية رعاية لحقوق الشعوب المحتلة.
إننا سنبني الكلام حول الموضوع بتناول طبيعة الدعوة الإسلامية، وهي دعوة عالمية، ورسالة خاتمة للرسالات السابقة، موجهة لكل الإنسانية دون استثناء، فقد قال تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً) المائدة، وقال سبحانه (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) سبأ، وقال عز من قائل (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ). الأنبياء.
ولقد أشار الرسول صلى الله عليه وسلم، إلى عموم بعثته وعالمية دعوته بقوله (كان كل نبي يُبعث إلى قومه خاصة وبُعثت إلى كل أحمر وأسود)، وفي لفظ (إلى الناس عامة).
ومن جهة التطبيق العملي، فقد تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع الأمر باعتباره مسلمة واضحة، فبعث بالكتب والرسائل إلى الملوك والأمراء، وزعماء العالم يدعوهم إلى الإسلام.
ومن ذلك كله يمكن أن ندرك أن علاقة المسلمين بغيرهم من الأمم الأخرى، هي علاقة دعوة؛ فالأمة المسلمة أمة رسالة عالمية، تتخطى في إيمانٍ وسموٍّ وعفوية كل الحدود والحواجز التي تنتهي إليها، أو تتهاوى عندها المبادئ الأخرى؛ سواء أكانت هذه الحدود والحواجز جغرافية أو سياسية أو عرقية أو لغوية. وعليه فلن يكون في العلاقة مع الدول الأخرى إطار وشكل وحيدان ينحصران إما في السلم الدائم أو الحراب المتواصلة بل الأمر تقرره القيادة السياسية في ضوء آراء المتخصصين والوضع الأمني والعسكري للمجتمع المسلم. غير أن المتفق عليه هو أن الخيانة والغدر مع أي دولة يربطنا بها عهد وميثاق محرمة ولا يجوز بحال إنهاؤها دون إعلام سابق لهم بل يجب الإعلام وإعطاؤهم مهلة كافية للتفكير في سبب إنهاء المعاهدة، قال الله تعالى: "وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين" سورة الأنفال. والآية الكريمة نزلت في يهود بني قريظة حينما تحالفوا مع قريش ونقضوا العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذه المسألة أيضا من قضايا السياسة الشرعية، التي يحتكم فيها إلى فهم عميق للواقع والمصالح التي تترتب على خيار الحرب أو السلام، مع الالتزام بعدم الخيانة في حال كان خيار الحرب سيتم إقراره مع دولة أو دول تربطنا بها عهود ومواثيق. ونحن إذ نقول الالتزام بعدم الخيانة فهذا أمر قد شرعه الله تعالى ولا يجوز مخالفته بلا مبرر وسبب، وليس كما نشاهد اليوم من سلوك الدول الكبرى.
ثاني عشر: تغيير اسم يثرب إلى المدينة:
لقد أظهر أحد القراء الكرام رغبته في معرفة قصة تغيير اسم يثرب إلى المدينة ونحن نذكر له التلخيص؛ بأنه قد ورد في كتب التاريخ القديم اسم يثرب ويقصد بها المدينة المنورة، وقد وردت في كتابات المعينيين اليمنيين وبعض مؤرخي اليونان، وأول من سماها المدينة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وورد ذلك في قوله (أمرت بقرية تأكل القرى، يقولون يثرب، وهي المدينة"، وقد ورد اسم المدينة في القرآن الكريم (وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم) التوبة، وذهب المؤرخون إلى أن السبب في تغيير اسمها إلى المدينة هو إعطاؤها خصوصية جديدة تتعلق بدولة المسلمين الوليدة.
سنبدأ بإذن الله تعالى ابتداء من المقال القادم تناول مسألة مرجعية الدستور وروحه التي تشكل مصدر الأحكام فيه والإطار النظري للدستور يتم مراجعة مواده وتعديلاته وفقها.
------------------------------------------------
القراء الكرام : السلام عليكم يسعد الكاتبين الاطلاع المتواصل على ملاحظاتكم وتعليقاتكم على سلسلة الثقافة الدستورية ويؤكدان على أهمية تلك الملاحظات والتعليقات وأنهما يستفيدان منها ويأخذانها بعين الاعتبار عند إعداد مقالات السلسلة وسيكتبان مقالة خاصة بعد انتهاء كل مجموعة من المقالات كتلك المتعلقة بالوثائق الدستورية في العهد النبوي والخلافة الراشدة للإجابة والتعليق على تساؤلاتكم وملاحظاتكم.
------------------------------------------
مصدر هذه السلسلة هو موقع الدكتور الصلابى ذاته ..........
ننهي في هذه المقالة التوضيحات التي كتبناها على ما ورد في تعليقات وتساؤلات القراء الكرام، وسنقتصر في التوضيحات على ملخصات لما ورد في تلك التساؤلات والتعليقات، على أن نفصل العديد منها في المقالات القادمة من سلسلة الثقافة الدستورية.
ثامناً: الجهاد في الإسلام
تناول القرآن الكريم الجهاد في مواطن كثيرة وتحدث عن أنواعه ، وأسبابه، وفضل وأهمية الجهاد في الإسلام لا يمكن إنكاره، أو محاولة التقليل من مكانته النظرية في مصادر الشريعة والتطبيقية طوال تاريخ المسلمين، ويكفي للوقوف على فضل الجهاد أن نقرأ قوله تعالى (لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيماً) النساء، فالمفاضلة وقعت في الآية الكريمة بين فريقين من المؤمنين كلاهما قادر على الخروج للجهاد، فكان للمجاهدين فضل ومقام أرفع ومنزلة أعلى عند الله تعالى.
وفي نفس الصدد نجد النبي صلى الله عليه وسلم قد مدح الجهاد والمجاهدين كقوله: " مثل المجاهد في سبيل الله - والله أعلم بمن يجاهد في سبيله - كمثل الصائم القائم، وتكفل الله للمجاهد في سبيله إن توفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه سالماً مع أجر أو غنيمة"، وفي حديث آخر أجاب صلى الله عليه وسلم بعد أن سئل أي الأعمال أفضل: (إيمان بالله ورسوله، قيل ثم ماذا؟ قال الجهاد في سبيل الله، قيل ثم ماذا ؟ قال حج مبرور).
ولا شك بأن الحرب لم تكن أمراً جديداً على البشرية قبل الإسلام، غير أن الإسلام نظم الجهاد والقتال ووضع له أخلاقاً ومبادئ، نذكر منها على سبيل المثال ما أوصى به أبو بكر الصديق رضي الله عنه قادة جيشه وهو يودعهم سائراً على قدميه مع الجيش: "لما بعث أبو بكر الجنود نحو الشام، يزيد بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وشرحبيل بن حسنة، جعل يوصيهم فقال: أوصيكم بتقوى الله.. اغزوا في سبيل الله فقاتلوا من كفر بالله، فإن الله ناصر دينه ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تجبنوا ولا تفسدوا في الأرض، ثم قال: ولا تعزقن نخلاً ولا تحرقنها، ولا تعقروا بهيمة، ولا شجرة تثمر، ولا تهدموا بيعة، ولا تقتلوا الولدان ولا الشيوخ ولا النساء، وستجدون أقواماً حبسوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما حبسوا أنفسهم له."
كما إن لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وصية مطولة، أرسلها إلى سعد بن أبي وقاص والجيش الذي معه نذكر طرفا منها: " أما بعد، فإني آمرك ومن معك بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي، من احتراسكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون على عدوهم بمعصية عدوهم الله.. ولا تقولوا إن عدونا شر منا، فلن يسلطوا علينا وإن أسأنا، فرب قوم سلط عليهم شر منهم، كما سلط على بني إسرائيل لما عملوا بمعاصي الله كفرة المجوس، (فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً)، فسألوا الله العون على أنفسكم، كما تسألونه على عدوكم.. وترفق بالمسلمين في مسيرهم، ولا تسير بهم سيراً يتعبهم، ولا تقصر بهم عن منزل الرفق بهم " ثم أوصى بحسن التعامل مع أهل الصلح والعهود مع المسلمين فقال: " ونح منازلهم –أي الجنود- عن قرى أهل الصلح، فلا يدخلها من أصحابك إلا من تثق به وبدينه، ولا يرزؤا أحداً من أهلها شيئاً، فإن لهم حرمة وذمة ابتليتم بالوفاء بها، كما ابتلوا بالصبر عليها، فكما صبروا لكم فوفوا لهم، ولا تستنصروا على أهل الحرب بظلم أهل الصلح.
ونحن لا تزال ذاكرتنا تزخر بقصص الجهاد في مختلف أوطان المسلمين، وليس ببعيد عنا ما قدمه أجدادنا من تضحيات جسام لأجل تحرير الوطن من سيطرة الاحتلال الإيطالي، والأمر نفسه يقال عن جهاد الجزائريين والمغاربة وغيرهم، وما نراه ونسمع عنه اليوم في فلسطين والعراق.
إننا نواجه اليوم بهجوم متواصل على مفهوم وتطبيق الجهاد من قبل مراكز قوى عالمية، في حين تمارس هي غزواً جائراً للعالم، تحتل فيه مقدرات شعوب ومواردها، وتمارس جرائم ضد الإنسانية، ولا نجد من كثير من مثقفينا رداً لهذا العدوان ببيان أسبابه وممارساته ضد الإنسانية، إننا نتوقع أن يتذكر شعبنا دائماً جهاد الأجداد فيعلو من قيمة حماية الوطن والذود عن الدين والعرض، ويعظم حريته فيكون لنا دستورنا الذي يبرز هذا الحق، ويعلي من دور الدفاع عن الأوطان ونصرة المظلومين.
تاسعاً: مكانة البشرية في المجتمع المسلم
لأن المقام لا يحتمل الإطالة، فإننا نكتفي بذكر حادثة انتصر فيها الله تعالى ليهودي تعرض لظلم من بعض المسلمين؛ حاولوا إقناع النبي الكريم بصدق قضيتهم وضعف قضية اليهودي فقط لكونهم مسلمين، وقد نزل أثناء محاولتهم إقناع النبي صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً، وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيماً، وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ، إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيماً، يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً، هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا) النساء.
إذا هذه الآيات الخمسة من سورة النساء نزلت لتبرئة يهودي اتهمه مسلمون بالسرقة، ولم يتعامل القرآن الكريم معه باعتباره من اليهود الذين لم يفتئوا يؤذون المسلمين؛ بسعيهم الدؤوب لتأليب المشركين عليهم في كل جزيرة العرب، وقدموا الدعم للمنافقين، بل تعامل معه باعتباره إنسانا يتعرض للظلم من بعض المسلمين فجاءت الآيات الكريمة حازمة وواضحة لم تجامل المسلمين باعتبار أن ضحية الظلم يهودي.. ربما خطر في بال البعض بأن مصلحة المسلمين في النيل منه لانتمائه لمجموعة شكلت مع مشركي قريش أشد الأعداء وألد الخصوم.
هكذا وفي حياة النبي الكريم يقرر الله تعالى بآيات في القرآن الكريم بأن العدل مسألة لا تقبل التبعيض أو القسمة، ولا يجوز فيها الكيل بمكيالين، وهو أمر لم تعهده البشرية من قبل، فعدو متربص بك متآمر عليك مخالف لك في الدين والعرق والثقافة.. لا يجوز معه إلا العدل والعدل الواضح.
لقد استدللنا بهذه الآيات لنؤكد لقرائنا الكرام بأن العدل وهو من أهم أسباب التعايش وأوضح سمة لقبول الآخر للعيش معك، ونختم الفقرة بقوله صلى الله عليه وسلم (ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة).
إننا مطالبون اليوم أكثر من أي وقت مضى بأن نقدم الإسلام للناس جميعاً مسلمين وغيرهم واضحاً جلياً، دون أي محاولة للتبرير أو الدفاع، بل إن شرح حقائق الإسلام كافية بأن تقنع كل من ألقى السمع حاضراً عقله صافياً قلبه، وإننا إذ نؤكد دائما على أهمية أن يكون الإسلام مرجعيتنا الثقافية، والأرضية التي يبنى عليها دستورنا ونصنا القانوني لعلمنا بما في الإسلام، من هذه الخصائص الإنسانية التي تحمي المخالف من جور الموافق.
عاشرا: التجنيد إلزامي أم اختياري
تدرس مسألة التجنيد ضمن مباحث السياسية الشرعية، وهي فرع في الفقه يختص بالنظر في المسائل المتعلقة بالدولة ابتداءً باختيار الحكومة، ومرورا بالعلاقات الدولية، والمسائل الأمنية والعسكرية.
وقد كان التجنيد في العهد النبوي طوعياً، وكان يشارك في الجهاد والعمليات العسكرية أغلب البالغين من الرجال، بل ولقد كان للنساء حضورهن المتميز والمستمر في الجهاد.
في الحقيقة، لا يوجد حكم محدد يتعلق بالتجنيد وتنظيم القوات المسلحة، وإنما تخضع تقديراتها لما تقرره القيادة السياسية بالتشاور مع أهل الاختصاص في الدولة، وتقدر من خلالها مدى الحاجة إلى التجنيد الإلزامي لحماية الدولة والقيام بالواجبات العسكرية والأمنية.
لقد ألزم سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه المسلمين بالتجنيد بعد أن علم بأن الفرس يعدون العدة ويتجمعون لاستئصال القوة القليلة من المسلمين الباقين في العراق، فأمر بالتجنيد الإجباري حيث تقضي الحاجة إلى مثل هكذا إجراء؛ ولذلك أمر المثنى رضي الله عنه، أن ينظر فيما حوله من القبائل ممن يصلح للقتال، ويقدر عليه فيأتي به طائعاً أو غير طائع، وهذا هو التجنيد الإجباري والنفير العام، الذي رآه عمر وكان أول من عمل به في الإسلام.
حادي عشر: المعاهدات مع الدول الأخرى
سوف لن نقف عند تبرير الموقف الثقافي للمسلمين تجاه الدول الأخرى، فإننا نعيش اليوم زمناً يتدخل فيه الأقوياء تحت حجج واهية في دولنا ودول أخرى، وتشعل الحروب في كل مكان بهدف السيطرة السياسية والاقتصادية، دون أية رعاية لحقوق الشعوب المحتلة.
إننا سنبني الكلام حول الموضوع بتناول طبيعة الدعوة الإسلامية، وهي دعوة عالمية، ورسالة خاتمة للرسالات السابقة، موجهة لكل الإنسانية دون استثناء، فقد قال تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً) المائدة، وقال سبحانه (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) سبأ، وقال عز من قائل (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ). الأنبياء.
ولقد أشار الرسول صلى الله عليه وسلم، إلى عموم بعثته وعالمية دعوته بقوله (كان كل نبي يُبعث إلى قومه خاصة وبُعثت إلى كل أحمر وأسود)، وفي لفظ (إلى الناس عامة).
ومن جهة التطبيق العملي، فقد تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع الأمر باعتباره مسلمة واضحة، فبعث بالكتب والرسائل إلى الملوك والأمراء، وزعماء العالم يدعوهم إلى الإسلام.
ومن ذلك كله يمكن أن ندرك أن علاقة المسلمين بغيرهم من الأمم الأخرى، هي علاقة دعوة؛ فالأمة المسلمة أمة رسالة عالمية، تتخطى في إيمانٍ وسموٍّ وعفوية كل الحدود والحواجز التي تنتهي إليها، أو تتهاوى عندها المبادئ الأخرى؛ سواء أكانت هذه الحدود والحواجز جغرافية أو سياسية أو عرقية أو لغوية. وعليه فلن يكون في العلاقة مع الدول الأخرى إطار وشكل وحيدان ينحصران إما في السلم الدائم أو الحراب المتواصلة بل الأمر تقرره القيادة السياسية في ضوء آراء المتخصصين والوضع الأمني والعسكري للمجتمع المسلم. غير أن المتفق عليه هو أن الخيانة والغدر مع أي دولة يربطنا بها عهد وميثاق محرمة ولا يجوز بحال إنهاؤها دون إعلام سابق لهم بل يجب الإعلام وإعطاؤهم مهلة كافية للتفكير في سبب إنهاء المعاهدة، قال الله تعالى: "وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين" سورة الأنفال. والآية الكريمة نزلت في يهود بني قريظة حينما تحالفوا مع قريش ونقضوا العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذه المسألة أيضا من قضايا السياسة الشرعية، التي يحتكم فيها إلى فهم عميق للواقع والمصالح التي تترتب على خيار الحرب أو السلام، مع الالتزام بعدم الخيانة في حال كان خيار الحرب سيتم إقراره مع دولة أو دول تربطنا بها عهود ومواثيق. ونحن إذ نقول الالتزام بعدم الخيانة فهذا أمر قد شرعه الله تعالى ولا يجوز مخالفته بلا مبرر وسبب، وليس كما نشاهد اليوم من سلوك الدول الكبرى.
ثاني عشر: تغيير اسم يثرب إلى المدينة:
لقد أظهر أحد القراء الكرام رغبته في معرفة قصة تغيير اسم يثرب إلى المدينة ونحن نذكر له التلخيص؛ بأنه قد ورد في كتب التاريخ القديم اسم يثرب ويقصد بها المدينة المنورة، وقد وردت في كتابات المعينيين اليمنيين وبعض مؤرخي اليونان، وأول من سماها المدينة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وورد ذلك في قوله (أمرت بقرية تأكل القرى، يقولون يثرب، وهي المدينة"، وقد ورد اسم المدينة في القرآن الكريم (وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم) التوبة، وذهب المؤرخون إلى أن السبب في تغيير اسمها إلى المدينة هو إعطاؤها خصوصية جديدة تتعلق بدولة المسلمين الوليدة.
سنبدأ بإذن الله تعالى ابتداء من المقال القادم تناول مسألة مرجعية الدستور وروحه التي تشكل مصدر الأحكام فيه والإطار النظري للدستور يتم مراجعة مواده وتعديلاته وفقها.
------------------------------------------------
القراء الكرام : السلام عليكم يسعد الكاتبين الاطلاع المتواصل على ملاحظاتكم وتعليقاتكم على سلسلة الثقافة الدستورية ويؤكدان على أهمية تلك الملاحظات والتعليقات وأنهما يستفيدان منها ويأخذانها بعين الاعتبار عند إعداد مقالات السلسلة وسيكتبان مقالة خاصة بعد انتهاء كل مجموعة من المقالات كتلك المتعلقة بالوثائق الدستورية في العهد النبوي والخلافة الراشدة للإجابة والتعليق على تساؤلاتكم وملاحظاتكم.
------------------------------------------
مصدر هذه السلسلة هو موقع الدكتور الصلابى ذاته ..........
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق