- بلادى توداى
- 10:39 ص
- أبحاث ودراسات ، تحليلات هامة
- لا توجد تعليقات
د.علي الصلابي- إسماعيل القريتلي
توضيحات على تساؤلات وتعليقات القراء
انتهينا في المقالات السابقة من استعراض الخبرات التاريخية لفترة العهد النبوي والعهد الراشدي، لقد حاولنا فيها التذكير بما تضمنته وأصلت له تلك الخبرة من أسس الحكم الرشيد، بل وعرضنا بعض الخبرات التي تؤسس للعقد الاجتماعي الذي تم بين مختلف قوى المجتمع المتدافعة، كالذي تم ما بين الحسن بن علي ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم، وما تم من قبل المسلمين بقيادة المصطفى صلى الله عليه وسلم تجاه أهل مكة بالعفو الكبير عنهم دون النظر لعظيم الجرائم التي ارتكبوها بحق نبي الإسلام ورسالته والمؤمنين به.
ومن واجب العرفان أن نتوجه لكافة القراء بالشكر على ما أبدوه من ملاحظات وأداروه من نقاش حول مضمون السلسلة، بغض النظر عن الاختلاف والاتفاق مع ما طرحناه وما سنقدمه في باقي السلسلة بإذن الله، وقد تابعنا بعناية واهتمام كل المداخلات والتعليقات، ولابد أن نشيد بتلك النقاشات، التي استفدنا منها ونحن نغذ السير لإتمام سلسلة مقالات الثقافة الدستورية.
لقد أوضحت لنا، وعمقت لدينا تلك التعليقات والمشاركات؛ العديد من الجوانب والمسائل والموضوعات التي يلزمنا الوقوف عندها وإيضاحها؛ وذلك من خلال المنهج الذي اخترناه في هذه السلسلة، بحيث نستعرض الخبرة التاريخية في سياق احتياجات الواقع القائم اليوم، فنحاول استخراج وقراءة واستنباط القواعد والأسس الفكرية والسياسية والثقافية من الخبرة التاريخية بشكل يفيد في النظر لمشاكلنا وأزماتنا المعاصرة.
وبعد وقوفنا على كافة التعليقات والنقاشات التي وردت حول سلسلة مقالاتنا، ارتأينا أن نجمل الأفكار العامة في عدد من العناوين، بحيث نتناولها تباعاً في مقالتين متتاليتين، قاصدين التواصل مع القراء والمهتمين، وتعميق التشاور والتناصح والتبيين، بحيث سيتم التعرض لما لم نتطرق إليه في هاتين المقالتين، فيما نستقبل من مقالات سلسلة الثقافة الدستورية.
أولاً: الثقافة الدستورية أم الدستور؟
يعلم الكثير منا، من خلال ما تبثه وتسربه وسائل الإعلام، بأن حديثاً عن الدستور يدور اليوم في ليبيا، ولاطلاعنا على بعض جوانب ذلك الحديث، ومن خلال نقاشنا مع العديد من أبناء الوطن، باختلاف وتنوع مشاربهم وتوجهاتهم الثقافية والفكرية والسياسية، أدركنا مسيس الحاجة إلى ترسيخ المفاهيم الدستورية من خلال التأسيس لبناء ثقافي يسبق ويعايش ويتجاوز مناخ الحديث السياسي والقانوني عن نص الدستور نفسه، وذلك لاعتقادنا بأن الدستور يصبح فاعلاً ومحمياً ومصاناً بقدر تثقف وامتلاء شرائح مجتمعنا بمضامينه وأصوله، وأن كل ذلك يتقدم في الأهمية على وجود الوثيقة نفسها، ولم يصعب علينا التأكد من هذا المعنى من خلال النظر في واقع الكثير من دولنا العربية والإسلامية التي يملك بعضها دساتير تصنف على أنها من بين أقدم الدساتير في العالم، إلا أن واقع تلك الدول يعكس أزمات سياسية واجتماعية وثقافية لا يتصور وجودها في دول يملك مواطنوها وعياً بأهمية الدستور.
إننا بهذا التمهيد، نؤيد وضع دستور لبلادنا، ولكننا نؤيد أيضاً أن يتعمق وعي المجتمع الليبي من خلال شيوع ثقافة دستورية تجعل من المجتمع حامياً لتلك الوثيقة بدل أن تتحول إلى أرشيف الوثائق الوطنية، ويصبح تغييرها وتعليقها وإلغائها أسهل وأيسر من جهود تدوينها وتبنيها.
ثانياً: استخدام التاريخ لمعالجة الحاضر..
اختلف معنا بعض القراء في الانطلاق من التاريخ للحديث عن الدستور، ونحن بدورنا نؤكد على أن نظرتنا للتاريخ في هذه السلسلة تهدف إلى تحقيق هدفين أساسيين هما: (الإقتداء والاعتبار).
فالإقتداء لإيماننا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أسس مجتمعاً إنسانياً ارتكز بناؤه على مفهوم الواجبات والحقوق، ونحن في تأملنا للتاريخ نحاول استنطاق الحكم والبحث عن العلل والأسباب، ونستلهم القواعد التي يؤسس عليها الحكم الرشيد، الذي تتضح معالمه بتحديد الواجبات وإقرار الحقوق.
أما الاعتبار فيتأتى بالنظر في نتائج الأحداث التاريخية، وما ترتب على تلك التدافعات من حراك وأثار، فعند حديثنا عن فكرة حق الأمة في اختيار من يديرها لجأنا إلى الخبرة التاريخية التي بدأت باختيار أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وانتهاءً باختيار الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه لتولي زمام قيادة الأمة.
إننا نعتقد بأن ثقافة وانتماء مجتمعنا هي امتداد لذلك التاريخ، وانتساب للرسالة الخاتمة، وإيمان بالقيم والموازين الرسالية الربانية؛ الأمر الذي يبرر لنا استلهام حركة التاريخ في بناء قيم تنفع وتؤكد ضرورة الاستمرار في الحاضر، دون الاستسلام لسياق التجربة التاريخية، بل بالتركيز على الاستفادة من التجربة لتطوير خبراتنا المعاصرة ووسائلنا وأدواتنا.
ثالثاً: علمانية الدولة والدستور..
لقد أكدت لنا مطالبة بعض قرائنا الكرام بوضع دستور علماني في ليبيا يفصل الدين عن الدولة؛ الحاجة إلى الاستمرار في طرح قضايا ومتعلقات الثقافة الدستورية من وجهة نظرنا المنتمية والمنحازة للفكرة الإسلامية، وانطلاقاً من إيماننا بالمرجعية العليا للإسلام في كافة المجالات الثقافية والفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، الأمر الذي يجعلنا مسؤولين وملتزمين أدبياً أمام الإخوة القراء الكرام، ببيان تصوراتنا عن الدستور، وما ينبغي أن يتضمنه من مسائل وقضايا تخضع لوجهة النظر الإسلامية البحتة.
إننا نستند في هذا المسلك على أحقية كل صاحب فكرة في أن يتولى بيانها وتوضيحها، ولإيماننا بالإسلام كمرجعية عليا للمجتمع، فإننا قد تجشمنا استعراض مفاهيمنا واختياراتنا وتصوراتنا لأصول وقواعد وإطارات الدولة والحكم، والإدارة لمكونات المجتمع، وأدوار وحقوق فئاته المتداخلة.
ويتأسس على كل ذلك، أن نتجاهل عرض آراء من يؤمن بغير تلك المرجعية، وأننا ملزمون في هذه السلسلة الثقافية، بتوضيح موقفنا من أبناء وطننا المختلفين معنا، سواء في الدين أو في تحديد سقف وصلاحيات المرجعية السياسية والفكرية العامة.
إنه من المهم أن يعلم قراؤنا الكرام، بأن خلافاتنا مع غيرنا حول المفاهيم والمرجعيات لا تصلح بحال أن تكون مقدمة نبرر بها إقصاءهم أو محاكمتهم الفكرية والقانونية بسبب الخلاف، بل نقول هنا بأنه من حق الجميع أن يعبر عن آرائه ووجهات نظره، بحيث تنحصر مقاومتنا القانونية وتنصب على من يشكل اختلافه تهديداً لأمن وسلم المجتمع وكل ذلك وفق نصوص قانونية واضحة لا تقبل التأويل ضد المختلف معنا.
كذلك ينبغي التنويه هنا إلى أن الانطلاق من الرؤية الإسلامية لبناء وتقويم مجتمعنا ودولتنا؛ لا ينتج عنه أية إشكالات أو أزمات، بل نعتقد أن الإسلام هو أحد أهم عناصر التوحيد بين المؤمنين به، وهو الذي يوفر المجال الأوسع للتعايش بين كل من ينضوي تحت مظلته، مع تحقيق للعدل والمساواة دون النظر في ألوان الناس وأعراقهم ومعتقداتهم.
إننا نؤمن بمدنية الإسلام ودولته ومجتمعه، ولا نفهم الإسلام حكماً كهنوتياً، بل الأمة فيه أساس الاختيار والترشيد والمراقبة، وذلك بتوجيه القرآن الكريم (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون) آل عمران.
رابعاً: الحرية والعقل
إننا ندرك عمق رسالة الإسلام الإنسانية حين نقرأ قوله تعالى (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) البقرة، وقوله سبحانه (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) الكهف، فإن كان الإيمان بالله تعالى لا مجال فيه للإكراه والفرض والقوة، فإنه من باب أولى ألا يكون الأمر بالإكراه مع البشر المخلوقين، وقد أجمع المسلمون على أن مدار ومحك التكليف هو الحرية والعقل، ويرتبط التكليف طردياً بوجود الحرية والعقل، ولذا فإننا نجد أن الإنسان يبدأ وجوده غير مكلف وتتسع دائرة التكليف كلما نضج فهمه واكتمل عقله، وينقص تكليفه بالقدر الذي تتحدد فيه حريته، حتى يصل الأمر إلى انعدام المسؤولية القانونية للمكلف عما يصدر عنه في حال انتفاء حريته وغياب إرادته في الاختيار، وهو ما يعرف عند علماء الأصول بالإكراه، ويصل حد انتفاء المسؤولية النطق بالكفر كالذي كان من سيدنا عمار بن ياسر رضي الله عنه، عندما أكره على شتم الله ورسوله تحت وطأة التعذيب وقتل والديه أمام عينيه وقد قال عز وجل (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم) النحل.
ثم إننا.. لو أجلنا النظر فيما حولنا لرأينا أغلب المجتمعات المسلمة تتعايش مع غيرها من الأديان، بل ونجد لدى المسلمين أفكاراً ومدارس ومذاهب وطوائف، عاشت ولا تزال في كنف الأغلبية السنية المسلمة دون أن تتعرض للإبادة أو أن تضطر إلى إخفاء آرائها مادامت لم تحول تلك الأفكار إلى مصادر لتهديد المجتمع وأمنه، وعند التهديد الفعلي فإن للمجتمع والدولة التي تتولى مسؤولياته أن تحميه بغض النظر عن هوية مصدر التهديد الفعلي الذي يحمل السلاح ضد المجتمع فيقلق أمنه، وفي الإسلام حديث حاسم عن البغاة الخارجين عن القانون المروعين للآمنين بغض النظر عن دينهم وفكرهم فهم تحت طائلة القانون والعقاب حتى لو كانوا مسلمين، وفي ذلك يقول الله تعالى ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم ) المائدة.
خامسا: الديمقراطية والشراكة والتداول وأشكال الحكم..
بعض القراء الكرام استنتج من ارتكازنا على المفاهيم الإسلامية في بناء سلسلة الثقافة الدستورية؛ رفضنا لمسألة الديمقراطية والتناوب والتداول على إدارة الدولة، وغيرها من مفاهيم وأشكال الحكم في عصرنا الحالي، ونحن بدورنا نؤكد بأننا لا نختلف مع أحد في الأسماء والألفاظ، وإنما نعرض قيم ومبادئ ومفاهيم محورية تتعلق بهوية المجتمع في الحياة السياسية، ودور أهل العلم والتخصص في تشكيل صيغ الثقافة وتأثيراتها، وأثر أهل الخبرة والدراية في الإدارة والقيادة والإرشاد، ولا نرى أحداً يعلو أو ينوب عن الأمة في اختيار السلطة أو تحديد شكلها وصلاحياتها، ولن يكون ثمة محل للخلاف مادامت هذه المسميات قد وضعت في اعتبارها تلك المبادئ والقيم والمفاهيم والاختيارات.
وكذلك فنحن لا نصر على فرض شكل معين محدد لآلية إدارة الحكم، بل نعتقد أن المجتمع هو الأحق بتحديد شكل الحكم الأنسب له، وأن ثقافة المجتمع سيكون لها الدور الأكبر في تحديد وجهة ومسار الاختيارات الراشدة.. والكلمة النهائية ستكون لمن يتأهل لرعاية حقوق المجتمع ويحفظ أولوياته ومصالحه، ويوظف طاقاته وموارده ويرتقي بإمكاناته..
سادساً: ماذا تعني شمولية الإسلام؟
الإسلام في فهمنا وفي واقع الحال، ليس دينا بالمعنى الكهنوتي الغامض، الذي يحاول البعض اللمز والتعريض والتلويح والتشويش به، ولكنه نظام يتضمن وينظم حياة الإنسان الفرد وكيان المجتمع ولبناته..
فمنذ مقدم الإنسان إلى خروجه من الدنيا، فإن الإسلام يهبه منطلقات التفكير، ومنهج العيش، ويرسم له آفاق الطريق، ويحذره من آفاتها ومنزلقاتها وشراكها.
إن شمولية الإسلام التي نعني، لا تترادف هنا مع الاستبداد المنظم، بل هي مرادفة لتحرير الكينونة البشرية من قيودها وأهوائها والارتقاء بها من أوحال الشهوات المحرمة إلى آفاق السمو الإنساني الرحبة، مع التركيز على ضرورة تحرير الواقع الإنساني من الانصياع للنعرات، والعصبيات القبلية، والأهواء الاجتماعية..
إن شمولية الإسلام التي نعني، تبرز في رعايته لحاجات الإنسان الفطرية، على الرغم من اختلاف الناس من حولها، فالإسلام لم ينظر للإنسان باعتباره كائناً ذي طبيعة واحدة أو خاصية متفردة، بل أقر بتنوع خصائصه وطبيعته وتطلعاته، فنظر إليه بواقعية تحترم فيه شغفه الروحي، وتراعي فيه ميله الغريزي، وتترقب فيه تجرده العقلي، ومن هذه النظرة والفهم تأسس المنهج الشامل الذي يستهدف تحقيق المطالب المتنوعة، والاحتياجات المتكاثرة، والارتقاء بالمطالب لتحقق الغاية التي أرادها المولى سبحانه من استخلاف هذا النوع في الكون، وتحقق الريادة اللائقة بالتكريم الأول يوم أسجد له الملائكة في الملأ الأعلى.. وأخضع وسخر له الوجود في الملأ الأدنى..
لكل هذا وغيره.. فإننا نجد القرآن الكريم يحدثنا بأسلوبه الرائق عن تفاصيل الاستخلاف ومشاهد التكريم والرعاية، وبركات الاهتداء والاستقامة.. والارتقاء والتوبة والندم وعن خلجات النفوس وتطلعاتها، وعن خائنة الأعين.. وما بين الجوانح.. في سياقات تستعرض السلم والحرب والوئام، والحياة والموت، والدنيا والآخرة، والحكم والقضاء، والولاء والبراء، والزهد والتجارة، والحب والزواج والطلاق، والحلال والحرام.. في شريعة خالدة وضعت قواعد وأسست قيم صالحة لكل زمان ولكل مكان.. ولكل إنسان يقرر أن يهتدي بكلمات السماء وأقباس الوحي وإشراقات النبوة المحبة الراضية، وذلك بإعمال العقل في فهم واستنباط تلك الحلول وتطوير الأفهام بما يخدم أمن واستقرار الإنسان.
سنواصل في المقالة القادمة الحديث عن بعض التساؤلات والتعليقات التي وردت على باقي مقالات السلسلة بإذن الله.
ومن واجب العرفان أن نتوجه لكافة القراء بالشكر على ما أبدوه من ملاحظات وأداروه من نقاش حول مضمون السلسلة، بغض النظر عن الاختلاف والاتفاق مع ما طرحناه وما سنقدمه في باقي السلسلة بإذن الله، وقد تابعنا بعناية واهتمام كل المداخلات والتعليقات، ولابد أن نشيد بتلك النقاشات، التي استفدنا منها ونحن نغذ السير لإتمام سلسلة مقالات الثقافة الدستورية.
لقد أوضحت لنا، وعمقت لدينا تلك التعليقات والمشاركات؛ العديد من الجوانب والمسائل والموضوعات التي يلزمنا الوقوف عندها وإيضاحها؛ وذلك من خلال المنهج الذي اخترناه في هذه السلسلة، بحيث نستعرض الخبرة التاريخية في سياق احتياجات الواقع القائم اليوم، فنحاول استخراج وقراءة واستنباط القواعد والأسس الفكرية والسياسية والثقافية من الخبرة التاريخية بشكل يفيد في النظر لمشاكلنا وأزماتنا المعاصرة.
وبعد وقوفنا على كافة التعليقات والنقاشات التي وردت حول سلسلة مقالاتنا، ارتأينا أن نجمل الأفكار العامة في عدد من العناوين، بحيث نتناولها تباعاً في مقالتين متتاليتين، قاصدين التواصل مع القراء والمهتمين، وتعميق التشاور والتناصح والتبيين، بحيث سيتم التعرض لما لم نتطرق إليه في هاتين المقالتين، فيما نستقبل من مقالات سلسلة الثقافة الدستورية.
أولاً: الثقافة الدستورية أم الدستور؟
يعلم الكثير منا، من خلال ما تبثه وتسربه وسائل الإعلام، بأن حديثاً عن الدستور يدور اليوم في ليبيا، ولاطلاعنا على بعض جوانب ذلك الحديث، ومن خلال نقاشنا مع العديد من أبناء الوطن، باختلاف وتنوع مشاربهم وتوجهاتهم الثقافية والفكرية والسياسية، أدركنا مسيس الحاجة إلى ترسيخ المفاهيم الدستورية من خلال التأسيس لبناء ثقافي يسبق ويعايش ويتجاوز مناخ الحديث السياسي والقانوني عن نص الدستور نفسه، وذلك لاعتقادنا بأن الدستور يصبح فاعلاً ومحمياً ومصاناً بقدر تثقف وامتلاء شرائح مجتمعنا بمضامينه وأصوله، وأن كل ذلك يتقدم في الأهمية على وجود الوثيقة نفسها، ولم يصعب علينا التأكد من هذا المعنى من خلال النظر في واقع الكثير من دولنا العربية والإسلامية التي يملك بعضها دساتير تصنف على أنها من بين أقدم الدساتير في العالم، إلا أن واقع تلك الدول يعكس أزمات سياسية واجتماعية وثقافية لا يتصور وجودها في دول يملك مواطنوها وعياً بأهمية الدستور.
إننا بهذا التمهيد، نؤيد وضع دستور لبلادنا، ولكننا نؤيد أيضاً أن يتعمق وعي المجتمع الليبي من خلال شيوع ثقافة دستورية تجعل من المجتمع حامياً لتلك الوثيقة بدل أن تتحول إلى أرشيف الوثائق الوطنية، ويصبح تغييرها وتعليقها وإلغائها أسهل وأيسر من جهود تدوينها وتبنيها.
ثانياً: استخدام التاريخ لمعالجة الحاضر..
اختلف معنا بعض القراء في الانطلاق من التاريخ للحديث عن الدستور، ونحن بدورنا نؤكد على أن نظرتنا للتاريخ في هذه السلسلة تهدف إلى تحقيق هدفين أساسيين هما: (الإقتداء والاعتبار).
فالإقتداء لإيماننا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أسس مجتمعاً إنسانياً ارتكز بناؤه على مفهوم الواجبات والحقوق، ونحن في تأملنا للتاريخ نحاول استنطاق الحكم والبحث عن العلل والأسباب، ونستلهم القواعد التي يؤسس عليها الحكم الرشيد، الذي تتضح معالمه بتحديد الواجبات وإقرار الحقوق.
أما الاعتبار فيتأتى بالنظر في نتائج الأحداث التاريخية، وما ترتب على تلك التدافعات من حراك وأثار، فعند حديثنا عن فكرة حق الأمة في اختيار من يديرها لجأنا إلى الخبرة التاريخية التي بدأت باختيار أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وانتهاءً باختيار الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه لتولي زمام قيادة الأمة.
إننا نعتقد بأن ثقافة وانتماء مجتمعنا هي امتداد لذلك التاريخ، وانتساب للرسالة الخاتمة، وإيمان بالقيم والموازين الرسالية الربانية؛ الأمر الذي يبرر لنا استلهام حركة التاريخ في بناء قيم تنفع وتؤكد ضرورة الاستمرار في الحاضر، دون الاستسلام لسياق التجربة التاريخية، بل بالتركيز على الاستفادة من التجربة لتطوير خبراتنا المعاصرة ووسائلنا وأدواتنا.
ثالثاً: علمانية الدولة والدستور..
لقد أكدت لنا مطالبة بعض قرائنا الكرام بوضع دستور علماني في ليبيا يفصل الدين عن الدولة؛ الحاجة إلى الاستمرار في طرح قضايا ومتعلقات الثقافة الدستورية من وجهة نظرنا المنتمية والمنحازة للفكرة الإسلامية، وانطلاقاً من إيماننا بالمرجعية العليا للإسلام في كافة المجالات الثقافية والفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، الأمر الذي يجعلنا مسؤولين وملتزمين أدبياً أمام الإخوة القراء الكرام، ببيان تصوراتنا عن الدستور، وما ينبغي أن يتضمنه من مسائل وقضايا تخضع لوجهة النظر الإسلامية البحتة.
إننا نستند في هذا المسلك على أحقية كل صاحب فكرة في أن يتولى بيانها وتوضيحها، ولإيماننا بالإسلام كمرجعية عليا للمجتمع، فإننا قد تجشمنا استعراض مفاهيمنا واختياراتنا وتصوراتنا لأصول وقواعد وإطارات الدولة والحكم، والإدارة لمكونات المجتمع، وأدوار وحقوق فئاته المتداخلة.
ويتأسس على كل ذلك، أن نتجاهل عرض آراء من يؤمن بغير تلك المرجعية، وأننا ملزمون في هذه السلسلة الثقافية، بتوضيح موقفنا من أبناء وطننا المختلفين معنا، سواء في الدين أو في تحديد سقف وصلاحيات المرجعية السياسية والفكرية العامة.
إنه من المهم أن يعلم قراؤنا الكرام، بأن خلافاتنا مع غيرنا حول المفاهيم والمرجعيات لا تصلح بحال أن تكون مقدمة نبرر بها إقصاءهم أو محاكمتهم الفكرية والقانونية بسبب الخلاف، بل نقول هنا بأنه من حق الجميع أن يعبر عن آرائه ووجهات نظره، بحيث تنحصر مقاومتنا القانونية وتنصب على من يشكل اختلافه تهديداً لأمن وسلم المجتمع وكل ذلك وفق نصوص قانونية واضحة لا تقبل التأويل ضد المختلف معنا.
كذلك ينبغي التنويه هنا إلى أن الانطلاق من الرؤية الإسلامية لبناء وتقويم مجتمعنا ودولتنا؛ لا ينتج عنه أية إشكالات أو أزمات، بل نعتقد أن الإسلام هو أحد أهم عناصر التوحيد بين المؤمنين به، وهو الذي يوفر المجال الأوسع للتعايش بين كل من ينضوي تحت مظلته، مع تحقيق للعدل والمساواة دون النظر في ألوان الناس وأعراقهم ومعتقداتهم.
إننا نؤمن بمدنية الإسلام ودولته ومجتمعه، ولا نفهم الإسلام حكماً كهنوتياً، بل الأمة فيه أساس الاختيار والترشيد والمراقبة، وذلك بتوجيه القرآن الكريم (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون) آل عمران.
رابعاً: الحرية والعقل
إننا ندرك عمق رسالة الإسلام الإنسانية حين نقرأ قوله تعالى (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) البقرة، وقوله سبحانه (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) الكهف، فإن كان الإيمان بالله تعالى لا مجال فيه للإكراه والفرض والقوة، فإنه من باب أولى ألا يكون الأمر بالإكراه مع البشر المخلوقين، وقد أجمع المسلمون على أن مدار ومحك التكليف هو الحرية والعقل، ويرتبط التكليف طردياً بوجود الحرية والعقل، ولذا فإننا نجد أن الإنسان يبدأ وجوده غير مكلف وتتسع دائرة التكليف كلما نضج فهمه واكتمل عقله، وينقص تكليفه بالقدر الذي تتحدد فيه حريته، حتى يصل الأمر إلى انعدام المسؤولية القانونية للمكلف عما يصدر عنه في حال انتفاء حريته وغياب إرادته في الاختيار، وهو ما يعرف عند علماء الأصول بالإكراه، ويصل حد انتفاء المسؤولية النطق بالكفر كالذي كان من سيدنا عمار بن ياسر رضي الله عنه، عندما أكره على شتم الله ورسوله تحت وطأة التعذيب وقتل والديه أمام عينيه وقد قال عز وجل (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم) النحل.
ثم إننا.. لو أجلنا النظر فيما حولنا لرأينا أغلب المجتمعات المسلمة تتعايش مع غيرها من الأديان، بل ونجد لدى المسلمين أفكاراً ومدارس ومذاهب وطوائف، عاشت ولا تزال في كنف الأغلبية السنية المسلمة دون أن تتعرض للإبادة أو أن تضطر إلى إخفاء آرائها مادامت لم تحول تلك الأفكار إلى مصادر لتهديد المجتمع وأمنه، وعند التهديد الفعلي فإن للمجتمع والدولة التي تتولى مسؤولياته أن تحميه بغض النظر عن هوية مصدر التهديد الفعلي الذي يحمل السلاح ضد المجتمع فيقلق أمنه، وفي الإسلام حديث حاسم عن البغاة الخارجين عن القانون المروعين للآمنين بغض النظر عن دينهم وفكرهم فهم تحت طائلة القانون والعقاب حتى لو كانوا مسلمين، وفي ذلك يقول الله تعالى ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم ) المائدة.
خامسا: الديمقراطية والشراكة والتداول وأشكال الحكم..
بعض القراء الكرام استنتج من ارتكازنا على المفاهيم الإسلامية في بناء سلسلة الثقافة الدستورية؛ رفضنا لمسألة الديمقراطية والتناوب والتداول على إدارة الدولة، وغيرها من مفاهيم وأشكال الحكم في عصرنا الحالي، ونحن بدورنا نؤكد بأننا لا نختلف مع أحد في الأسماء والألفاظ، وإنما نعرض قيم ومبادئ ومفاهيم محورية تتعلق بهوية المجتمع في الحياة السياسية، ودور أهل العلم والتخصص في تشكيل صيغ الثقافة وتأثيراتها، وأثر أهل الخبرة والدراية في الإدارة والقيادة والإرشاد، ولا نرى أحداً يعلو أو ينوب عن الأمة في اختيار السلطة أو تحديد شكلها وصلاحياتها، ولن يكون ثمة محل للخلاف مادامت هذه المسميات قد وضعت في اعتبارها تلك المبادئ والقيم والمفاهيم والاختيارات.
وكذلك فنحن لا نصر على فرض شكل معين محدد لآلية إدارة الحكم، بل نعتقد أن المجتمع هو الأحق بتحديد شكل الحكم الأنسب له، وأن ثقافة المجتمع سيكون لها الدور الأكبر في تحديد وجهة ومسار الاختيارات الراشدة.. والكلمة النهائية ستكون لمن يتأهل لرعاية حقوق المجتمع ويحفظ أولوياته ومصالحه، ويوظف طاقاته وموارده ويرتقي بإمكاناته..
سادساً: ماذا تعني شمولية الإسلام؟
الإسلام في فهمنا وفي واقع الحال، ليس دينا بالمعنى الكهنوتي الغامض، الذي يحاول البعض اللمز والتعريض والتلويح والتشويش به، ولكنه نظام يتضمن وينظم حياة الإنسان الفرد وكيان المجتمع ولبناته..
فمنذ مقدم الإنسان إلى خروجه من الدنيا، فإن الإسلام يهبه منطلقات التفكير، ومنهج العيش، ويرسم له آفاق الطريق، ويحذره من آفاتها ومنزلقاتها وشراكها.
إن شمولية الإسلام التي نعني، لا تترادف هنا مع الاستبداد المنظم، بل هي مرادفة لتحرير الكينونة البشرية من قيودها وأهوائها والارتقاء بها من أوحال الشهوات المحرمة إلى آفاق السمو الإنساني الرحبة، مع التركيز على ضرورة تحرير الواقع الإنساني من الانصياع للنعرات، والعصبيات القبلية، والأهواء الاجتماعية..
إن شمولية الإسلام التي نعني، تبرز في رعايته لحاجات الإنسان الفطرية، على الرغم من اختلاف الناس من حولها، فالإسلام لم ينظر للإنسان باعتباره كائناً ذي طبيعة واحدة أو خاصية متفردة، بل أقر بتنوع خصائصه وطبيعته وتطلعاته، فنظر إليه بواقعية تحترم فيه شغفه الروحي، وتراعي فيه ميله الغريزي، وتترقب فيه تجرده العقلي، ومن هذه النظرة والفهم تأسس المنهج الشامل الذي يستهدف تحقيق المطالب المتنوعة، والاحتياجات المتكاثرة، والارتقاء بالمطالب لتحقق الغاية التي أرادها المولى سبحانه من استخلاف هذا النوع في الكون، وتحقق الريادة اللائقة بالتكريم الأول يوم أسجد له الملائكة في الملأ الأعلى.. وأخضع وسخر له الوجود في الملأ الأدنى..
لكل هذا وغيره.. فإننا نجد القرآن الكريم يحدثنا بأسلوبه الرائق عن تفاصيل الاستخلاف ومشاهد التكريم والرعاية، وبركات الاهتداء والاستقامة.. والارتقاء والتوبة والندم وعن خلجات النفوس وتطلعاتها، وعن خائنة الأعين.. وما بين الجوانح.. في سياقات تستعرض السلم والحرب والوئام، والحياة والموت، والدنيا والآخرة، والحكم والقضاء، والولاء والبراء، والزهد والتجارة، والحب والزواج والطلاق، والحلال والحرام.. في شريعة خالدة وضعت قواعد وأسست قيم صالحة لكل زمان ولكل مكان.. ولكل إنسان يقرر أن يهتدي بكلمات السماء وأقباس الوحي وإشراقات النبوة المحبة الراضية، وذلك بإعمال العقل في فهم واستنباط تلك الحلول وتطوير الأفهام بما يخدم أمن واستقرار الإنسان.
سنواصل في المقالة القادمة الحديث عن بعض التساؤلات والتعليقات التي وردت على باقي مقالات السلسلة بإذن الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق