- بلادى توداى
- 10:33 ص
- أبحاث ودراسات ، تحليلات هامة
- لا توجد تعليقات
د.علي الصلابي- إسماعيل القريتلي
العدالة الانتقالية في فتح مكة.. نتائج العفو
قد تبين لنا في المقالة السابقة عظمة العفو الذي قابل به النبي صلى الله عليه وسلم قريشا، على الرغم من عدم ادخارها لأي جهد في إيذاء المسلمين والتضييق عليهم، وتحجيم الدعوة الوليدة.
وفي هذا المقال نستكمل الحديث عن أهم النتائج التي ترتبت على ذلك العفو:
أولاً: بالعفو تصنع قريش تاريخاً للمسلمين
لم تنتظر قريش كثيراً لتعتنق الإسلام، وتنضم إلى ركب حملة لواء الدعوة الربانية الخالدة؛ فبعيد الفتح مباشرة ودون تأخر يذكر دخلت مكة كاملة في الإسلام بسبب العفو العظيم والمصالحة الجليلة، وبدخول مكة تحت راية الإسلام دخل الناس في دين الله أفواجاً، وتمت النعمة ووجب الشكر، وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس جميعاً الرجال والنساء، والكبار والصغار.
ولنا أن نتصور لو كان موقف المسلمين جاء مناقضا للعفو والمصالحة تحت أي ذريعة، ماذا كان يمكن أن يكون مصير قريش؟ وأين ستذهب تلك الإنجازات الكبيرة التي حققتها لصالح رسالة الإسلام الخالدة؟ سواء في حركة الفتوحات، أو في بناء الدولة الإسلامية التي وصلت بهم إلى شبه جزيرة إيبريا أو " الأندلس ".
إن النظر باعتبارات المصالح الكبرى والغايات الاستراتيجية في ملف الفتح والعفو والإصلاح وتداعياتهما؛ يطلعنا على تأثير إسلام قريش في حركة تاريخ المسلمين العام، ولو قصرنا النظر على الجانب السياسي فقط لأدركنا أن أغلب الفتوحات والتوسع وانتشار الإسلام تم في عهد قيادة قريش للدولة المسلمة خاصة في عهد الدولة الأموية، التي امتد الإسلام فيها واتسعت رقعة الدولة لتصل إلى حدود الصين وكل العالم العربي اليوم وأقاصي جنوب أوروبا، وما أن انتهت دولتهم على يد العباسيين حتى أسسوا دولة جديدة بهرت العالم بإنجازها الفكري والعلمي هي الأندلس، التي استمرت قرابة ثمانية قرون وقد أسهمت فكرياً في خروج أوروبا من ظلمات العصور الوسطى -كما يسمونها هم- عن طريق الحركة التي عرفت بأوروبا بالرشدية نسبة إلى القاضي ابن رشد.
وهنا نلحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أدرك أهمية قريش للعرب الذي بدأ فيهم وبهم الإسلام، فكان أن ذكر لبعض الصحابة كأبي بكر الصديق رضي الله عنه بأن الأئمة من قريش، وهو ما يعني أن الأمر إما أن يكون تنبؤاً نبوياً بدور قريش القادم، أو أنه تقرير لحقيقة واقعة تتمثل في أن قريش في ذلك الزمن كانت قلب العرب ومكة حاضرتهم، وهو ما قرره ابن خلدون في تفسير مفهوم هذا النص النبوي من خلال النظر إلى الواقع الاجتماعي والسياسي لقريش في تلك الحقبة.
وبالتأكيد فإن قريشا لم تكن لتصنع تلك النتائج العميقة التأثير في تاريخ المسلمين؛ لولا ذلك العفو الكبير الذي مهد سبيلهم لدخول الإسلام دون أي أحقاد بسبب الانتقام، أو إفراغ الجهد في التصفيات، أو حتى تطبيق العدل الحاسم. ودون إقصاء لمكانتهم وهو ما أكده النبي صلى الله عليه وسلم بإكرام أعيان قريش وحفظ مقامهم الاجتماعي كما فعل مع أبي سفيان، مما حثهم وسهل لهم استخدام مكانتهم الاجتماعية لصالح الإسلام ودعوته، ودولته الوليدة الناشئة.
وبالتأكيد فإن انتهاء الدولة الأموية بالمشرق الإسلامي، خلفه دولة ثانية أسسها قريشيون هم بنو العباس، وهكذا قادت قريش العالم الإسلامي لقرون أخرى موزعة ما بين العباسيين في المشرق، والأمويين في الأندلس.
ثانياً: دخول العرب في الإسلام وانطلاق عجلة الفتوحات
لقد نتج عن دخول قريش الإسلام لحوق بقية العرب بها إلا ما كان من بعضهم كهوازن، ولكن سرعان ما فاؤوا إلى الإسلام وبعد فتح مكة بقليل لم يصبح في جزيرة العرب إلا الإسلام.
وهذا الأمر هو الذي مهد للمسلمين الانتقال بالدعوة الإسلامية في عهد أبي بكر إلى خارج الجزيرة العربية، حيث بدأت بعوث الفتح الإسلامي تجاه الشام والعراق، وتشكلت مسارات وخطوط الفتوحات والتي استكملها وتوسع فيها من بعد أبي بكر الصديق، عمر الفاروق، وجزء من ولاية عثمان رضوان الله عليهم أجمعين، ثم تولى الأمر الأمويون، ومن جاء بعدهم.
وهنا يجب أن نذكر القراء الكرام ما ألمحنا إليه في مقالات المصالحة الوطنية الكبرى بين الحسن ومعاوية رضي الله عنهما، من أن حركات الفتوحات تراجعت حتى توقفت في عند سيدنا علي رضي الله عنه بسبب الاختلاف بينه وبين معاوية فيما يتعلق بالمطالبة بدم عثمان رضي الله عنه، والإصرار من قبل معاوية على إنفاذ العدالة الحاسمة في من ارتكب جريمة اغتيال عثمان رضي الله عنه السياسية، ثم اتسع الدم بدخول الطرفين في معارك انتهت بمقتل علي رضي عنه واستمرت سنوات في عهد عبد الله بن الزبير كذلك.
هكذا تؤكد الخبرتان التاريخيتان الفرق الواضح بين العفو والمصالحة من جهة، وبين العدالة الحاسمة التي تسعى إلى فتح كافة الملفات السابقة وملاحقة كل الجزئيات، مما يشغل الوطن بأسره لسنوات أو عقود لا أحد يقدر نهايتها، ثم إلى مدى سنواصل تطبيق تلك العدالة بدون أي تحول تجاه الانتقام والتوسع في القصاص، مما يعود بنا من جديد لنقطة البداية فيصبح الظالم مظلوما يطالب هو كذلك بتطبيق العدالة الحاسمة على من كان مظلوما وضحية بالأمس القريب.
ثالثاً : ثبات قريش على الإسلام ومواجهة حركات الردة ومنع الزكاة
إن أكبر مشكلة سياسية وأمنية واجهها الإسلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، تمثلت في ارتداد جموع كبيرة ممن أسلموا بعد الفتح عن الإسلام؛ سواء باتباع مدعي النبوة الكاذبة، أو بالامتناع عن دفع الزكاة متأولين تأولاً فاسداً، أنها كانت حقا للنبي صلى الله عليه وسلم لا تدفع لغيره بعد وفاته.
وقد كان لقريش يومها حظها الكبير ودورها المهم في محاربة تلك الحركات التي هددت بنيان الدولة الوليدة، وما كان للأنصار والمهاجرين وحدهم أن يواجهوا تلك الحركة الواسعة من محاولات الانقلاب على الشرعية، والدولة والمجتمع، فكان لقريش دوراً حاسماً في هذا الباب، وأسهمت مع باقي المسلمين في التصدي لهذا التصدع الداخلي.
إذاً لم يكن العفو إلا انطلاقة جديدة للإسلام والمسلمين ودعوتهم بين العالمين، وماذا لو استسلم المسلمون لمشاعرهم البشرية الراغبة بأقل تقدير في تحقيق العدل الحاسم، الذي تفصل فيه التهم وتجمع الأدلة ويصبح للقضاء كلمته الأخيرة، وغالباً ما يضيق مجال الصفح بعد أن تنكأ الجراحات من جديد، وبالتأكيد فإن تطبيق هذا العدل الحاسم كان سيقضي على شخصيات مهمة شاركت في رسم تاريخ البشرية جمعاء في حركة الفتوحات الإسلامية والحكم والعلم، كأبي سفيان قائد وزعيم وعميد بن أمية، الذين بنوا وأسسوا دولة مهمة في مجمل التاريخ الإنساني، وما كان لنا أن نقرأ صفحات في تاريخ هارون الرشيد الذي بلغت في عهده الحركة العلمية أوجها، وتأسست في عهد العباسيين المذاهب الفكرية والفقهية ونمت اتجاهات الزهد ومدارس التصوف، وانتشرت العلوم التطبيقية كالطب والهندسة والكيمياء، وما سواها.
لقد كان الكثير مما ذكرنا. وأكثر. مما نتج عن حركة الاستعاضة بالعفو والصفح الجميل عن تطبيق مفهوم العدل الحاسم، الأمر الذي تحقق بامتناع القيادة والأصحاب عن المطالبة بالعدالة الصارمة لغايات أسمى وأهداف أعظم من الناحية السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
فمن الناحية السياسية يحفظ العفو الجميل وحدة الأمة السياسية حيث يركز في حركة ما بعد العفو على تصحيح الأخطاء، وتقوية الدولة وإشراك الجميع دون إقصاء لمن كان مهيمنا على الأمر من قبل، وتعميق مفاهيم الشراكة والتعاون والتعايش، وتوثيق وتدوين مبادئ هذا التشارك والتعايش، وتثقيف وتنشئة الأجيال عليه.
وأما من جهة الأمن، فإن العدل الحاسم قد يقود إلى رفض بعض من سيمسهم هذا العدل بسبب مخاوف من نتائج هذا العدل التي قد تكون سلباً للحياة أو الأموال والنفوذ، وهو ما لن تقبله الكثير من الجهات الحاكمة سابقاً وهي إذ ترفض هذه الفكرة، فإنها لا تزال تملك الكثير من عناصر القوة الميدانية والسياسية، مما يجعل الأوطان تقف على شفا حروب وصراعات أهلية قد لا يخرج فيها أي منتصر، ولا نحصد منها سوى ترسخ ثقافة الانتقام والملاحقة، ولعل مثال الصومال ليس بعيداً علينا، فبعد أن رفض معارضو رئيس الصومال السابق سياد بري التعايش معه واقتسام النفوذ وتوسيع دائرة المشاركة وأصروا على التغيير بحجة العدل الحاسم، بعد كل هذا نرى الآن الصومال منقسماً مهدداً، ومتآكلاً منهكاً، ورأينا رفاق النضال في السابق، كيف أضحوا أعداء ساحات القتال وخصوم السياسة اليوم.
وأما من الناحية الاقتصادية، فإننا لن نختلف كثيراً في تلمس ما يترتب على رفض العفو والمصالحة والتغافر من آثار على الوطن والمواطن؛ بعد أن يتخندق المتخاصمون وتنطلق مدافع الحرب، كالتي في الجزائر والصومال، أو تتعطل السياسة في اختناق كالذي تشهده لبنان اليوم. كل ذلك في مقابل مشاهد التجربة المغربية، التي تصالحت قواها الفاعلة مع ماضيها، ولم تضع نفسها تحت وطأة الضرورة في مواجهات فئوية أو عرقية أو دينية.
وأما بالاعتبارات الاجتماعية. فإن العفو العام يزيد بلا شك، من تآلف مكونات ووشائج المجتمع المتنوعة ثقافياً ولغوياً وعرقياً ودينياً في حال اختلاف الأديان، وهذا مقصد استراتيجي يجب التفكير فيه بدلاً من الإصرار على عدالة تنتهي إلى تنافر وتمزق مكونات المجتمع، وإعادة تخندقها خوفا من الانتقام باسم العدالة.
وأخيراً لا أخراً، فإن العفو يصنع خبرة تاريخية تتأسس عليها ثقافة الأجيال، الأمر الذي يوحد ضمير الوطن ويزيد من مساحات التعايش والقبول بالاختلاف، وتتعمق ثقافة تقديم المصلحة العامة على الخاصة والممتدة على الآنية المؤقتة.
إننا في وطننا اليوم بحاجة إلى أن نتماسك ونتغافر؛ لنؤسس ونمهد لخبرة العفو والتسامح، التي ستتحول إلى مناهج للتعليم وموجهات للفكر ومحددات للثقافة، وإطار لبناء دستور الدولة الذي لا يقوم على الإقصاء والانتقام واللمز كما هو واقع الحال في دستور العراق الجديد.
وفي هذا المقال نستكمل الحديث عن أهم النتائج التي ترتبت على ذلك العفو:
أولاً: بالعفو تصنع قريش تاريخاً للمسلمين
لم تنتظر قريش كثيراً لتعتنق الإسلام، وتنضم إلى ركب حملة لواء الدعوة الربانية الخالدة؛ فبعيد الفتح مباشرة ودون تأخر يذكر دخلت مكة كاملة في الإسلام بسبب العفو العظيم والمصالحة الجليلة، وبدخول مكة تحت راية الإسلام دخل الناس في دين الله أفواجاً، وتمت النعمة ووجب الشكر، وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس جميعاً الرجال والنساء، والكبار والصغار.
ولنا أن نتصور لو كان موقف المسلمين جاء مناقضا للعفو والمصالحة تحت أي ذريعة، ماذا كان يمكن أن يكون مصير قريش؟ وأين ستذهب تلك الإنجازات الكبيرة التي حققتها لصالح رسالة الإسلام الخالدة؟ سواء في حركة الفتوحات، أو في بناء الدولة الإسلامية التي وصلت بهم إلى شبه جزيرة إيبريا أو " الأندلس ".
إن النظر باعتبارات المصالح الكبرى والغايات الاستراتيجية في ملف الفتح والعفو والإصلاح وتداعياتهما؛ يطلعنا على تأثير إسلام قريش في حركة تاريخ المسلمين العام، ولو قصرنا النظر على الجانب السياسي فقط لأدركنا أن أغلب الفتوحات والتوسع وانتشار الإسلام تم في عهد قيادة قريش للدولة المسلمة خاصة في عهد الدولة الأموية، التي امتد الإسلام فيها واتسعت رقعة الدولة لتصل إلى حدود الصين وكل العالم العربي اليوم وأقاصي جنوب أوروبا، وما أن انتهت دولتهم على يد العباسيين حتى أسسوا دولة جديدة بهرت العالم بإنجازها الفكري والعلمي هي الأندلس، التي استمرت قرابة ثمانية قرون وقد أسهمت فكرياً في خروج أوروبا من ظلمات العصور الوسطى -كما يسمونها هم- عن طريق الحركة التي عرفت بأوروبا بالرشدية نسبة إلى القاضي ابن رشد.
وهنا نلحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أدرك أهمية قريش للعرب الذي بدأ فيهم وبهم الإسلام، فكان أن ذكر لبعض الصحابة كأبي بكر الصديق رضي الله عنه بأن الأئمة من قريش، وهو ما يعني أن الأمر إما أن يكون تنبؤاً نبوياً بدور قريش القادم، أو أنه تقرير لحقيقة واقعة تتمثل في أن قريش في ذلك الزمن كانت قلب العرب ومكة حاضرتهم، وهو ما قرره ابن خلدون في تفسير مفهوم هذا النص النبوي من خلال النظر إلى الواقع الاجتماعي والسياسي لقريش في تلك الحقبة.
وبالتأكيد فإن قريشا لم تكن لتصنع تلك النتائج العميقة التأثير في تاريخ المسلمين؛ لولا ذلك العفو الكبير الذي مهد سبيلهم لدخول الإسلام دون أي أحقاد بسبب الانتقام، أو إفراغ الجهد في التصفيات، أو حتى تطبيق العدل الحاسم. ودون إقصاء لمكانتهم وهو ما أكده النبي صلى الله عليه وسلم بإكرام أعيان قريش وحفظ مقامهم الاجتماعي كما فعل مع أبي سفيان، مما حثهم وسهل لهم استخدام مكانتهم الاجتماعية لصالح الإسلام ودعوته، ودولته الوليدة الناشئة.
وبالتأكيد فإن انتهاء الدولة الأموية بالمشرق الإسلامي، خلفه دولة ثانية أسسها قريشيون هم بنو العباس، وهكذا قادت قريش العالم الإسلامي لقرون أخرى موزعة ما بين العباسيين في المشرق، والأمويين في الأندلس.
ثانياً: دخول العرب في الإسلام وانطلاق عجلة الفتوحات
لقد نتج عن دخول قريش الإسلام لحوق بقية العرب بها إلا ما كان من بعضهم كهوازن، ولكن سرعان ما فاؤوا إلى الإسلام وبعد فتح مكة بقليل لم يصبح في جزيرة العرب إلا الإسلام.
وهذا الأمر هو الذي مهد للمسلمين الانتقال بالدعوة الإسلامية في عهد أبي بكر إلى خارج الجزيرة العربية، حيث بدأت بعوث الفتح الإسلامي تجاه الشام والعراق، وتشكلت مسارات وخطوط الفتوحات والتي استكملها وتوسع فيها من بعد أبي بكر الصديق، عمر الفاروق، وجزء من ولاية عثمان رضوان الله عليهم أجمعين، ثم تولى الأمر الأمويون، ومن جاء بعدهم.
وهنا يجب أن نذكر القراء الكرام ما ألمحنا إليه في مقالات المصالحة الوطنية الكبرى بين الحسن ومعاوية رضي الله عنهما، من أن حركات الفتوحات تراجعت حتى توقفت في عند سيدنا علي رضي الله عنه بسبب الاختلاف بينه وبين معاوية فيما يتعلق بالمطالبة بدم عثمان رضي الله عنه، والإصرار من قبل معاوية على إنفاذ العدالة الحاسمة في من ارتكب جريمة اغتيال عثمان رضي الله عنه السياسية، ثم اتسع الدم بدخول الطرفين في معارك انتهت بمقتل علي رضي عنه واستمرت سنوات في عهد عبد الله بن الزبير كذلك.
هكذا تؤكد الخبرتان التاريخيتان الفرق الواضح بين العفو والمصالحة من جهة، وبين العدالة الحاسمة التي تسعى إلى فتح كافة الملفات السابقة وملاحقة كل الجزئيات، مما يشغل الوطن بأسره لسنوات أو عقود لا أحد يقدر نهايتها، ثم إلى مدى سنواصل تطبيق تلك العدالة بدون أي تحول تجاه الانتقام والتوسع في القصاص، مما يعود بنا من جديد لنقطة البداية فيصبح الظالم مظلوما يطالب هو كذلك بتطبيق العدالة الحاسمة على من كان مظلوما وضحية بالأمس القريب.
ثالثاً : ثبات قريش على الإسلام ومواجهة حركات الردة ومنع الزكاة
إن أكبر مشكلة سياسية وأمنية واجهها الإسلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، تمثلت في ارتداد جموع كبيرة ممن أسلموا بعد الفتح عن الإسلام؛ سواء باتباع مدعي النبوة الكاذبة، أو بالامتناع عن دفع الزكاة متأولين تأولاً فاسداً، أنها كانت حقا للنبي صلى الله عليه وسلم لا تدفع لغيره بعد وفاته.
وقد كان لقريش يومها حظها الكبير ودورها المهم في محاربة تلك الحركات التي هددت بنيان الدولة الوليدة، وما كان للأنصار والمهاجرين وحدهم أن يواجهوا تلك الحركة الواسعة من محاولات الانقلاب على الشرعية، والدولة والمجتمع، فكان لقريش دوراً حاسماً في هذا الباب، وأسهمت مع باقي المسلمين في التصدي لهذا التصدع الداخلي.
إذاً لم يكن العفو إلا انطلاقة جديدة للإسلام والمسلمين ودعوتهم بين العالمين، وماذا لو استسلم المسلمون لمشاعرهم البشرية الراغبة بأقل تقدير في تحقيق العدل الحاسم، الذي تفصل فيه التهم وتجمع الأدلة ويصبح للقضاء كلمته الأخيرة، وغالباً ما يضيق مجال الصفح بعد أن تنكأ الجراحات من جديد، وبالتأكيد فإن تطبيق هذا العدل الحاسم كان سيقضي على شخصيات مهمة شاركت في رسم تاريخ البشرية جمعاء في حركة الفتوحات الإسلامية والحكم والعلم، كأبي سفيان قائد وزعيم وعميد بن أمية، الذين بنوا وأسسوا دولة مهمة في مجمل التاريخ الإنساني، وما كان لنا أن نقرأ صفحات في تاريخ هارون الرشيد الذي بلغت في عهده الحركة العلمية أوجها، وتأسست في عهد العباسيين المذاهب الفكرية والفقهية ونمت اتجاهات الزهد ومدارس التصوف، وانتشرت العلوم التطبيقية كالطب والهندسة والكيمياء، وما سواها.
لقد كان الكثير مما ذكرنا. وأكثر. مما نتج عن حركة الاستعاضة بالعفو والصفح الجميل عن تطبيق مفهوم العدل الحاسم، الأمر الذي تحقق بامتناع القيادة والأصحاب عن المطالبة بالعدالة الصارمة لغايات أسمى وأهداف أعظم من الناحية السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
فمن الناحية السياسية يحفظ العفو الجميل وحدة الأمة السياسية حيث يركز في حركة ما بعد العفو على تصحيح الأخطاء، وتقوية الدولة وإشراك الجميع دون إقصاء لمن كان مهيمنا على الأمر من قبل، وتعميق مفاهيم الشراكة والتعاون والتعايش، وتوثيق وتدوين مبادئ هذا التشارك والتعايش، وتثقيف وتنشئة الأجيال عليه.
وأما من جهة الأمن، فإن العدل الحاسم قد يقود إلى رفض بعض من سيمسهم هذا العدل بسبب مخاوف من نتائج هذا العدل التي قد تكون سلباً للحياة أو الأموال والنفوذ، وهو ما لن تقبله الكثير من الجهات الحاكمة سابقاً وهي إذ ترفض هذه الفكرة، فإنها لا تزال تملك الكثير من عناصر القوة الميدانية والسياسية، مما يجعل الأوطان تقف على شفا حروب وصراعات أهلية قد لا يخرج فيها أي منتصر، ولا نحصد منها سوى ترسخ ثقافة الانتقام والملاحقة، ولعل مثال الصومال ليس بعيداً علينا، فبعد أن رفض معارضو رئيس الصومال السابق سياد بري التعايش معه واقتسام النفوذ وتوسيع دائرة المشاركة وأصروا على التغيير بحجة العدل الحاسم، بعد كل هذا نرى الآن الصومال منقسماً مهدداً، ومتآكلاً منهكاً، ورأينا رفاق النضال في السابق، كيف أضحوا أعداء ساحات القتال وخصوم السياسة اليوم.
وأما من الناحية الاقتصادية، فإننا لن نختلف كثيراً في تلمس ما يترتب على رفض العفو والمصالحة والتغافر من آثار على الوطن والمواطن؛ بعد أن يتخندق المتخاصمون وتنطلق مدافع الحرب، كالتي في الجزائر والصومال، أو تتعطل السياسة في اختناق كالذي تشهده لبنان اليوم. كل ذلك في مقابل مشاهد التجربة المغربية، التي تصالحت قواها الفاعلة مع ماضيها، ولم تضع نفسها تحت وطأة الضرورة في مواجهات فئوية أو عرقية أو دينية.
وأما بالاعتبارات الاجتماعية. فإن العفو العام يزيد بلا شك، من تآلف مكونات ووشائج المجتمع المتنوعة ثقافياً ولغوياً وعرقياً ودينياً في حال اختلاف الأديان، وهذا مقصد استراتيجي يجب التفكير فيه بدلاً من الإصرار على عدالة تنتهي إلى تنافر وتمزق مكونات المجتمع، وإعادة تخندقها خوفا من الانتقام باسم العدالة.
وأخيراً لا أخراً، فإن العفو يصنع خبرة تاريخية تتأسس عليها ثقافة الأجيال، الأمر الذي يوحد ضمير الوطن ويزيد من مساحات التعايش والقبول بالاختلاف، وتتعمق ثقافة تقديم المصلحة العامة على الخاصة والممتدة على الآنية المؤقتة.
إننا في وطننا اليوم بحاجة إلى أن نتماسك ونتغافر؛ لنؤسس ونمهد لخبرة العفو والتسامح، التي ستتحول إلى مناهج للتعليم وموجهات للفكر ومحددات للثقافة، وإطار لبناء دستور الدولة الذي لا يقوم على الإقصاء والانتقام واللمز كما هو واقع الحال في دستور العراق الجديد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق