- بلادى توداى
- 12:00 م
- تحليلات هامة
- لا توجد تعليقات
مدونة وررودد الحق
د. أحمد محمد بحر
هكذا أضحى حالنا اليوم حين نقلّب ذكريات الوجع والحنين، ونستحضر الرجال الأفذاذ الذين عاشوا للقضية الفلسطينية، وعاشت القضية بهم ردحًا من الزمن.
حسبُنا أننا نرثي العظماء الذين أبلوا البلاء الحسن في ميادين الجهاد والدعوة، ورفعوا هاماتنا عاليًا فوق رءوس الأشهاد، ونقشوا اسم فلسطين في وجدان الأمة العربية والإسلامية، وتحدوا الكيان الصهيوني المسخ الذي سوقوه لنا ذات يوم على أنه كيان لا يقهر، وأعادوا رسم موقع شعبنا وقضيتنا على خارطة الأحداث الدولية، وضخّوا في شرايين أبناء شعبنا وأمتنا الثقة بنصر الله، والأمل بأن هذا الكيان إلى زوال، وأن قضيتنا إلى انتصار.
بالأمس القريب رثينا الإمام الرباني الشيخ الشهيد أحمد ياسين رحمه الله، وها نحن اليوم نرثي خليفته "القمة" د. عبد العزيز الرنتيسي الذي كان بحق رجلاً بأمة، كما كل الرجال العظام الذي أثروا حياة شعبنا وأمتنا، وحفروا لها موقعها اللائق بها تحت شمس الحرية والحضارة والازدهار.
لعله من قدر الله أن يكون يوم استشهادك بتاريخ 17/4/2004م وهو يوم الأسير الفلسطيني، وكنت مدافعًا عن الأسري، ومطالبًا دومًا المقاومة باختطاف الجنود من أجل الإفراج عنهم.
حين تلامس خصال وشمائل الشهيد د. الرنتيسي التي ضمتها دفتيّ حياته الحافلة، فإنك تُحار من أين تبدأ، فكل ما فيه حسن، وكل ما فيه جميل، وكل ما فيه يبعث على التقدير، ويفتح آفاق التأسي والاقتداء.
الشهيد د. الرنتيسي لم يكن رجلاً عاديًا كبقية الرجال، أو رقمًا مجردًا كبقية الأرقام، وإنما كان رجل كل المواقف، ورجل كل المحطات، ورجل كل المراحل.
عمل الشهيد د. الرنتيسي بكل جد وعطاء في مختلف الأصعدة والمجالات، وكان له في كل مجال حظ ونصيب، وترك في كل موقع أبلغ الأثر، فكان بحق فارس الكلمة، ورجل الدعوة، ورائد البندقية.
عرفه شعبنا أسدًا هصورًا في الصدح بكلمة الحق، والجرأة في مواجهة الباطل، والثبات على الموقف، دون أن يخشى في الله لومة لائم.
وها هي جبال وصخور وتلال منطقة مرج الزهور في جنوب لبنان إثر عملية الإبعاد الشهيرة تشهد على قوة وصلابة وجسارة الشهيد د. الرنتيسي، وقدراته الشخصية والقيادية التي حباه الله بها، وتصديه المشهود لقادة الاحتلال، وعلى رأسهم المجرم الهالك إسحق رابين.
لم تكن موقف الشهيد د. الرنتيسي -الذي كان ناطقًا باسم المبعدين آنذاك- الذي أكد فيه أن المبعدين سيعودون رغم أنف قرار الإبعاد ورغم أنف قادة الاحتلال، ناجمًا عن تصريح عابر أو موقف سطحي مرَّ مرور الكرام، بل كان يعبر عن حقيقة شخصية الرنتيسي التي تمور بالإيمان واليقين والقدرة اللامحدودة على مواجهة الباطل، مهما كانت العواقب والتحديات.
يُحسب للشهيد د. الرنتيسي مواقفه الصارمة وثباته الرائع في مواجهة الإجراءات التعسفية التي مارستها سلطة أوسلو في مرحلة ما قبل انتفاضة الأقصى المباركة، إذ انطلقت كلماته وتكرست مواقفه كالصواريخ؛ حفاظًا على مسار قضيتنا من العبث والتمييع والضياع، ليهزّ أركان السلطة ويدفعها للزجّ به في أقبية السجون عدة مرات، إلى أن منَّ الله بالفرج عقب اندلاع انتفاضة الأقصى التي أعادت برمجة القضية، وصياغة المسار الوطني على أسس وطنية سليمة.
وكم كان الشهيد د. الرنتيسي رائعًا حين تمكّن -بفضل الله وتوفيقه- من إغلاق ملف الاعتقال السياسي إبان اندلاع انتفاضة الأقصى، فقد اختار التضحية سبيلاً على الانصياع لأجهزة أمن السلطة البائدة التي أرادت اعتقاله -كالعادة- في ذلك الحين، وأثمر رفضه ومثابرته وإصراره على المواجهة خيرًا عميمًا لشعبنا الفلسطيني ومقاومته الباسلة، وإغلاقًا لملف الاعتقال السياسي الذي أدمنته سلطة أوسلو حتى النخاع.
كما عرفه شعبنا رجل دعوة وعقيدة لم يبخل على دينه ودعوته في وقت من الأوقات، أو تحت أي ظرف من الظروف.
تميز الشهيد د. الرنتيسي بإجادة حفظه للقرآن الكريم، وتخلّقه بأخلاق القرآن، وتمثّله بتعاليمه وتوجيهاته وأوامره ونواهيه، وهذه حقيقة ناصعة لا يجادل فيها إلا ضالّ، ولا يماري فيها إلا حاقد.
ما زلت أذكر كيف كان الشهيد د. الرنتيسي يلقي الدروس والخطب في المساجد دون انقطاع، وكيف كان يطوف على المساجد ليلة القدر في شهر رمضان من كل عام، مذكّرًا الناس بالله والعمل للدين والتحسّب للآخرة، ويربي الشباب على طاعة الله والالتزام بالقيم الفاضلة والأخلاق الحميدة.
كما عرفه شعبنا رجل جهاد وكفاح لم تزده المحن والخطوب إلا شدة وبأسًا وصلابة في مواجهة الاحتلال وإجراءاته القمعية.
كان الشهيد د. الرنتيسي جنديًّا ملتزمًا بقرار الحركة، ومطيعًا لها، ومحافظًا على وحدتها، ومصداقًا لسياستها، ما أهَّله لتبوء أرفع المواقع والدرجات في إطار المراتب القيادية للحركة طيلة مسيرتها التاريخية الحافلة.
وما زلت أذكر موقفه الرائع في مهرجان البيعة الشهير في ملعب اليرموك الذي انعقد خصِّيصَى لتقديم البيعة للرنتيسي قائدًا للحركة عقب استشهاد الإمام الشهيد أحمد ياسين، حين سأله أحد الصحفيين، وكنت واقفًا إلى جواره: من المسئول: أنت أم خالد مشعل؟ فما منه إلا أن ردّ ردًّا مفحمًا حين قال: أنا جندي في الحركة تحت قيادة الأخ خالد مشعل؛ ليعلم الأجيال فنَّ الطاعة وكيف يكون التزام القيادة في أحلك الظروف والمناسبات.
ولا يغرنّ أحد السمت الصارم والمظهر الخارجي المتشدد الذي بدا على محيا الشهيد الرنتيسي، فقد كان -رحمه الله- رقيق القلب والوجدان، مفعمًا بالروح الإنسانية النبيلة، يفيض قلبه عطفًا وحنانًا على الناس، ويعيش بينهم بالحب والتواضع وخفض الجناح.
جمعتني مواقف لا تحصى بالشهيد د. الرنتيسي، وكنت أوقن تمامًا أن الرجل يضيف إلى الحياة والوطن والقضية في كل يوم شيئًا جديدًا وعطاء جديدًا وإنجازًا جديدًا، ويقدم النموذج الأرقى للشخصية الإسلامية المتكاملة القادرة بحق على حفظ الحقوق وصيانة المقدسات ورعاية مصالح الشعب ومواجهة الاحتلال وبناء الوطن والمؤسسات.
رحمك الله يا أبا محمد، وأسكنك الفردوس الأعلى مع الأنبياء والشهداء والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.. يا من تركت أروع البصمات في حياة شعبنا الفلسطيني وقضيته الوطنية.. وجعلت من دمائك منارة لكل الساعين نحو الحرية والتائقين نحو المجد التليد.
المصدر: وكالة معا الإخبارية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق