- بلادى توداى
- 7:42 ص
- تحليلات هامة
- لا توجد تعليقات
يتناول هذا التحليل دور الشيخ رائد صلاح الزعيم الأول للحركة الإسلامية داخل فلسطين المحتلة عام 48، والذي يعتبره بعض الباحثين اليوم أهم قائد سياسي عربي في الداخل المحتل في هذه المرحلة، والأكثر ملاحقة ورصدا من المؤسسة الإسرائيلية.
ولن ينشغل التحليل بتقديم سيرة ذاتية أو تأريخ بيوغرافي للرجل، الذي صدرت بحقه مؤخرا قرارات إسرائيلية بمنعه من دخول القدس، والحكم عليه بالسجن الفعلي، بل قراءة للمحطات الهامة في هذه المرحلة المتعلقة به، لاسيما أن الأوساط اليهودية تعتبره الأكثر تطرفا، وهو من أشهر الشخصيات السياسية الإسلامية داخل إسرائيل، ومن أكثرها مواجهة للسياسات العدائية الإسرائيلية بحق الفلسطينيين ومقدساتهم.
وقد بدأ الشيخ نشاطه الإسلامي مبكرا، واعتنق أفكار جماعة "الإخوان المسلمين"، ونشط في مجال الدعوة الإسلامية داخل الخط الأخضر منذ المرحلة الثانوية، وكان من مؤسسي الحركة الإسلامية داخل الدولة العبرية في بداية السبعينيات، وبقي من كبار قادتها.
عمل صلاح 1986 محررا في مجلة "الصراط" الشهرية الإسلامية، ثم تفرغ مطلع عام 1989 لخوض الانتخابات البلدية، وشغل منصب نائب رئيس اللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية العربية، ونائب رئيس لجنة المتابعة العليا للمواطنين العرب.
قيادة الجماهير
يتمتع الشيخ رائد بصفات قيادية كثيرة، كالإرادة، والصبر، والتصميم على تحقيق الهدف، وجرأة الكلمة والموقف وغيرها الكثير، لكن أهم ما ميَّزَه قدرته على تحويل القيم الإسلامية الخلقية إلى جزء من ممارسته السياسية، فلم تتهمش خطوطه الحمراء، ولم تتزحزح ثوابته، ولم تتغير مواقفه.
واستطاع أن يجعل من عبارة "الأقصى في خطر" شعارا عالميا يحرج المؤسسة الإسرائيلية, وبقي ثابتا على موقفه حتى في قاعة المحكمة.
تبنى الشيخ رائد خلال هذه الفترة مبدأين أساسيين لم يتنازل عنهما أو يفاوض بشأنهما:
1- الثبات على قناعات الجماهير العربية، برغم الاختلافات السياسية بينها.
2- تبني إستراتيجية الصمود.
ويمكن الإشارة هنا إلى ثلاث تجارب ساهمت في بلورة فكره، فيما يتعلق برؤيته لمستقبل الجماهير العربية في الداخل، ولممارسته السياسية عموما، وهي:
1- العالم الشرعي: فقد أنهى دراسته الشرعية أواخر السبعينيات, واكتسب منظومة الفكر والقيم الإسلامية, واعتبر الأخلاق جزءا لا يتجزأ من ممارسته السياسية, ويعترف بأن رفع شعار "الإسلام هو الحل" في السياق الإسرائيلي لا يهدف لإقامة دولة إسلامية، بل "استثمار ما في الإسلام من قيم أخلاقية.. كالحرص على الأمانة في العمل, والإخلاص في الموقف، والتعامل مع أموال الناس بحساسية المسلم الذي يرفض أن تدخل بيته ذرة من حرام".
ونقل صفاته كداعية إسلامي إلى سماته كقائد سياسي, واعتبر أن عمله الدعوي جزء مكمل لعمله السياسي, واعتبر أن أخلاق القائد السياسي جزء من مشروعه، ومحور هام في تثبيت وتوسيع جماهيرية الحركة الإسلامية.
2- رئيس البلدية: حيث فاز في ثلاث دورات انتخابية لترؤس بلدية أم الفحم بين عامي 1989-2001، وتعرف خلال العمل البلدي على هموم العرب اليومية, وشكل بالنسبة له مدخلا قويا للعمل السياسي, وأدخل للعمل النضالي القطري روحا جديدة, وأصبح جزءا هاما في نجاح نضالات اللجان القطرية.
3- رئيس مؤسسة الأقصى: كشفت تجربة المؤسسة للشيخ رائد صلاح القوة الكامنة في المؤسسات غير الحكومية، وفتحت أمامه آفاقا واسعة للعمل الأهلي داخل الوسط العربي, ودفعه التحول التاريخي -الذي أحدثته المؤسسة على الوضع القائم في المسجد الأقصى- للتفكير بإحداث ذات التحول على مستوى الجماهير العربية في الداخل عبر العمل الأهلي، وبناء المؤسسات والجمعيات، وأراد إحداث تغيير لوضع الجماهير عبر الآلية التي استعملها في تجربته الفاعلة لقيادة مؤسسة الأقصى.
4- علاقاته المحلية والإقليمية: اعتاد الشيخ على ارتداء الزي الإسلامي التقليدي باستمرار، ولم يمنعه هذا من إقامة علاقات وثيقة مع العديد من الساسة وعلماء الدين في الداخل والخارج، كتعاونه المباشر مع رجال الدين المسيحيين، وحفاظه على حد أقصى من التنسيق الميداني مع زعماء العرب في الداخل المحتل، على اختلاف انتماءاتهم السياسية، وزيارته لمصر، والتقائه عددا من الساسة وعلماء الدين.
الاهتمام بالقدس
عام 2001 قدم الشيخ استقالته من رئاسة بلدية أم الفحم، في خطوة فاجأت الوسط العربي، وهو في أوج عطائه، خاصة أنه أول رئيس بلدية يقدم على مثل هذه الخطوة، في الوقت الذي أشارت جميع الاستطلاعات أنه كان يستطيع الفوز بمنصبه لدورات قادمة, لكنه آثر التفرغ الكامل للدعوة, وخدمة مشروع إعمار وإحياء المسجد الأقصى.
وبدأ نشاطه في إعمار المسجد وبقية المقدسات يتعاظم منذ عام 1996، وأفشل المخططات الساعية لإفراغ الأقصى من عمارة المسلمين، عبر جلب عشرات الآلاف من عرب الداخل للصلاة فيه من خلال "مسيرة البيارق".
ونجح هو وزملاؤه في إعمار المصلى المرواني داخل الحرم القدسي، وفتح بواباته العملاقة، وإعمار الأقصى القديم، وتنظيف ساحاته وإضاءتها، وإقامة وحدات مراحيض ووضوء في باب حطة والأسباط وفيصل والمجلس، وعمل على إحياء دروس المصاطب التاريخية، وأبرزها "درس الثلاثاء" الذي يحضره خمسة آلاف مصل أسبوعيا في المسجد الأقصى.
كما ساهم بإنشاء مشروع صندوق "طفل الأقصى" الذي يهتم برعاية 16 ألف طفل، وتنظيم المسابقة العالمية السنوية "بيت المقدس في خطر" في شهر رمضان للكبار والصغار، بمشاركة عشرات الآلاف من جميع أرجاء العالم، إضافة لمسابقة الأقصى العلمية الثقافية.
إلى جانب إصدار عدة أفلام وثائقية وعدة كتب عن المسجد الأقصى كشريط "المرابطون"، وكتاب "دليل أولى القبلتين"، وشريط "الأقصى المبارك تحت الحصار"، ورعايته لمهرجان "صندوق الأقصى".
ونجح في التأسيس بشكل رائع لمهرجان عالمي تغطيه عشرات القنوات الفضائية العربية والأجنبية في مدينة أم الفحم باسم "الأقصى في خطر"، يحضره ستون ألف فلسطيني.
انتخابات الكنيست
شكل الموقف من مشروعية خوض انتخابات الكنيست خلافا قسم الحركة الإسلامية داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 48، وقاد الشيخ رائد صلاح الجناح الأكبر في الحركة الإسلامية، الذي رأى في خوض هذه الانتخابات والانضواء تحت لواء الكنيست خطرا يهدد الهوية الفلسطينية، وقد انبنت رؤيته على جملة من الدوافع التي رآها تشكل موقفا بديلا وتتلخص في:
1- ترك العمل البرلماني كخيار سياسي للجماهير والتوجه نحو مأسسة المجتمع العربي، وبناء قدراته الذاتية بعيدا عن السياسة الإسرائيلية، وفي هذا الصدد يقول: "تحدد المؤسسة الإسرائيلية دور عضو الكنيست العربي، وتجعله هامشيا وإعلاميا فقط، ونحن في الحركة الإسلامية لا نريد إشغال هذا الدور، ونطمح للبقاء في موقعنا الذي وصلنا إليه، وتقوية مؤسساتنا أكثر".
2- الدعوة بشكل صريح لمقاطعة الانتخابات، والعمل على تعزيز قدرات المجتمع الفلسطيني في مأسسة المجتمع العربي، وبناء ذاته بالتخلي عن العمل البرلماني.
3- التطلع لتحويل فكرة المجتمع العصامي من مشروع للحركة الإسلامية إلى مشروع للجماهير العربية، والنجاح بتحويل قضايا المقدسات عموما وقضية المسجد الأقصى خصوصا لتحتل رأس سلم أولويات الأجندة السياسية والجماهيرية في الداخل.
4- تحويل مشروع "الأسلمة" إلى التحدي الأول والعقبة الأساسية لمشروع "الأسرلة"؛ حيث أفاد استطلاع إسرائيلي للرأي نشر عام 2002 أعده معهد "داحاف" أن 44% من مسلمي الداخل عادوا للالتزام الديني؛ بسبب تعاظم قوة الحركة الإسلامية.
ولعب الشيخ دورا كبيرا، ليس فقط في رفع نسبة المقاطعة في انتخابات الكنيست 2003، بل بالمقاطعة الجارفة في انتخابات رئاسة الحكومة عام 2001؛ حيث وصلت نسبة المقاطعة إلى 82% من المصوتين العرب.
المجتمع العصامي
شكلت "هبّة أكتوبر 2000" التي اندلعت في الوسط العربي تعاطفا مع انتفاضة الأقصى، مفصلا هاما في بلورة وعي الشيخ رائد حول المسار الذي يتوجب على عرب 48 سلوكه بعد مرور 50 عاما من العمل السياسي داخل الدولة، وتمثل بتوجهه بخطوطه العريضة نحو ما أسماه "بناء الذات والاعتماد عليها"، وما أطلق عليه بناء "المجتمع العصامي".
وكان الدافع الأساسي لطرح المشروع، أنه لاحظ قصورا كبيرا في تنظيم المجتمع العربي، وشكل الخلل التنظيمي على جميع الأصعدة عاملا دفعه للتفكير بمشروع رائد ومحلي لإعادة تنظيم بنى المجتمع العربي.
ولم تكن استنتاجاته في هذا المجال فكرية فقط تتعلق بمستقبل علاقة الدولة مع العرب أو بالعكس، أو العلاقة الداخلية بين مكونات المجتمع العربي، بل نالت سائر الأصعدة التنظيمية على مستوى ترشيد الجماهير نضاليا.
ويشرح الشيخ رائد صلاح قناعته السابقة بالقول: "كيف ننتقل إلى مجتمع منتج يملك القدرة على أن تكون لقمة طعامه من صنع يديه؛ مما يساعده على الصمود في قضاياه المصيرية؟ وبناء عليه نستطيع أن نصرح داعين وسطنا العربي؛ لأن يبدأ بإقامة مؤسسات منتجة في التجارة والصناعة والتموين".
وتلقت إسرائيل فكرة "المجتمع العصامي" بنوع من الشك، واعتبرته مشروعا انفصاليا، ومقدمة لحكم ذاتي انفصالي، وتعميقا للمنهج الانفصالي التي تسير حسبه الحركة الإسلامية.
"الجهاد" المدني
صاغ رائد صلاح مشروعا حضاريا متكاملا خاض على قاعدته "ملحمة مدنية"، تمثلت بـ:
1- بقاء الشعب في أرضه: حيث قامت الحركة الإسلامية بتأمين الحياة المعيشية وتحسينها، ووقاية للناس من حملة التجويع والحصار المفروض عليهم، عبر مسلسل لا يتوقف من زيادة الضرائب والغرامات الباهظة والرفع المتعمد للأسعار، والحرص على عدم شحّ المواد التموينية.
2- الحفاظ على الهوية الإسلامية: من خلال إحياء الروح الإسلامية والالتزام الإسلامي عبر "قوافل الدعاة" الذين جابوا الأرض، يربطون الجماهير بهويتها، تربية وعملا ومعاملات، وانطلاق حركة واسعة من العمران استهدفت ترميم المساجد والمؤسسات الإسلامية التي تحولت إلى متاحف وإسطبلات وبارات للخمر، وأوشكت على السقوط، ما أعاد للأرض والعمران سمتهما الحقيقي.
تبعات الانشقاق
لئن كان السبب الظاهري للانشقاق الذي حل بالحركة الإسلامية في فلسطين المحتلة يتمثل بقرار المشاركة في انتخابات الكنيست، فإن هناك أسبابا أخرى، داخلية وخارجية، دفعت باتجاه بروز هذا الشرخ الفكري والتنظيمي.
وقد كان ثمن الانشقاق كارثيا على مجتمع الداخل الفلسطيني على الرغم من أن الشيخ رائد دفع بقضية الأقصى لتكون المحور الذي تدور حوله، وليشكل رافعة سياسية وتربوية وأخلاقية للحركة والمجتمع, فإن ما حصل فيها من فعل ورد فعل أدى لدخول المجتمع أزمة تدين ساعد عليها الانفتاح "المعولم".
ومع ذلك، فقد رأى الشيخ، وإن لم يصرح، اتساع الشقة بين قيادات الحركة فيما بات يعرف بـ"الجناحين"، الشمالي والجنوبي.
وبعد حدوث الانشقاق فعليا، بات من الواضح أن هناك مدرستين في الحركة الإسلامية، لكل مدرسة قبلتها وفلسفتها التي تطورت ببطء شديد خلال سنوات التسعينيات، وتطورت مسرعة بعد ذلك, بعد الانشقاق، ولكل منهما مرجعيته السياسية والشرعية، ومع ذلك، فقد آثر الشيخ رائد الإبقاء على تواصل واضح ومعروف مع مختلف أقطاب الحركة الإسلامية من كلا الجناحين.
تلك أبرز المواقف والرؤى السياسية والفكرية والميدانية للشيخ رائد صلاح، وهي تجربة جديرة بالدراسة، والتقييم، والاستكشاف؛ نظرا لما رافقها من تغيرات كان لها الدور الكبير في إبقاء مفاهيم الحركة الإسلامية في وجه المؤسسة الإسرائيلية على ما هي عليه منذ أكثر من ثلاثين عاما دون تغيير أو انحراف، بالرغم من حالة الانشقاق التي عاشتها، وتعافت منها مع بعض الجراحات هنا وهناك.
ولن ينشغل التحليل بتقديم سيرة ذاتية أو تأريخ بيوغرافي للرجل، الذي صدرت بحقه مؤخرا قرارات إسرائيلية بمنعه من دخول القدس، والحكم عليه بالسجن الفعلي، بل قراءة للمحطات الهامة في هذه المرحلة المتعلقة به، لاسيما أن الأوساط اليهودية تعتبره الأكثر تطرفا، وهو من أشهر الشخصيات السياسية الإسلامية داخل إسرائيل، ومن أكثرها مواجهة للسياسات العدائية الإسرائيلية بحق الفلسطينيين ومقدساتهم.
وقد بدأ الشيخ نشاطه الإسلامي مبكرا، واعتنق أفكار جماعة "الإخوان المسلمين"، ونشط في مجال الدعوة الإسلامية داخل الخط الأخضر منذ المرحلة الثانوية، وكان من مؤسسي الحركة الإسلامية داخل الدولة العبرية في بداية السبعينيات، وبقي من كبار قادتها.
عمل صلاح 1986 محررا في مجلة "الصراط" الشهرية الإسلامية، ثم تفرغ مطلع عام 1989 لخوض الانتخابات البلدية، وشغل منصب نائب رئيس اللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية العربية، ونائب رئيس لجنة المتابعة العليا للمواطنين العرب.
قيادة الجماهير
يتمتع الشيخ رائد بصفات قيادية كثيرة، كالإرادة، والصبر، والتصميم على تحقيق الهدف، وجرأة الكلمة والموقف وغيرها الكثير، لكن أهم ما ميَّزَه قدرته على تحويل القيم الإسلامية الخلقية إلى جزء من ممارسته السياسية، فلم تتهمش خطوطه الحمراء، ولم تتزحزح ثوابته، ولم تتغير مواقفه.
واستطاع أن يجعل من عبارة "الأقصى في خطر" شعارا عالميا يحرج المؤسسة الإسرائيلية, وبقي ثابتا على موقفه حتى في قاعة المحكمة.
تبنى الشيخ رائد خلال هذه الفترة مبدأين أساسيين لم يتنازل عنهما أو يفاوض بشأنهما:
1- الثبات على قناعات الجماهير العربية، برغم الاختلافات السياسية بينها.
2- تبني إستراتيجية الصمود.
ويمكن الإشارة هنا إلى ثلاث تجارب ساهمت في بلورة فكره، فيما يتعلق برؤيته لمستقبل الجماهير العربية في الداخل، ولممارسته السياسية عموما، وهي:
1- العالم الشرعي: فقد أنهى دراسته الشرعية أواخر السبعينيات, واكتسب منظومة الفكر والقيم الإسلامية, واعتبر الأخلاق جزءا لا يتجزأ من ممارسته السياسية, ويعترف بأن رفع شعار "الإسلام هو الحل" في السياق الإسرائيلي لا يهدف لإقامة دولة إسلامية، بل "استثمار ما في الإسلام من قيم أخلاقية.. كالحرص على الأمانة في العمل, والإخلاص في الموقف، والتعامل مع أموال الناس بحساسية المسلم الذي يرفض أن تدخل بيته ذرة من حرام".
ونقل صفاته كداعية إسلامي إلى سماته كقائد سياسي, واعتبر أن عمله الدعوي جزء مكمل لعمله السياسي, واعتبر أن أخلاق القائد السياسي جزء من مشروعه، ومحور هام في تثبيت وتوسيع جماهيرية الحركة الإسلامية.
2- رئيس البلدية: حيث فاز في ثلاث دورات انتخابية لترؤس بلدية أم الفحم بين عامي 1989-2001، وتعرف خلال العمل البلدي على هموم العرب اليومية, وشكل بالنسبة له مدخلا قويا للعمل السياسي, وأدخل للعمل النضالي القطري روحا جديدة, وأصبح جزءا هاما في نجاح نضالات اللجان القطرية.
3- رئيس مؤسسة الأقصى: كشفت تجربة المؤسسة للشيخ رائد صلاح القوة الكامنة في المؤسسات غير الحكومية، وفتحت أمامه آفاقا واسعة للعمل الأهلي داخل الوسط العربي, ودفعه التحول التاريخي -الذي أحدثته المؤسسة على الوضع القائم في المسجد الأقصى- للتفكير بإحداث ذات التحول على مستوى الجماهير العربية في الداخل عبر العمل الأهلي، وبناء المؤسسات والجمعيات، وأراد إحداث تغيير لوضع الجماهير عبر الآلية التي استعملها في تجربته الفاعلة لقيادة مؤسسة الأقصى.
4- علاقاته المحلية والإقليمية: اعتاد الشيخ على ارتداء الزي الإسلامي التقليدي باستمرار، ولم يمنعه هذا من إقامة علاقات وثيقة مع العديد من الساسة وعلماء الدين في الداخل والخارج، كتعاونه المباشر مع رجال الدين المسيحيين، وحفاظه على حد أقصى من التنسيق الميداني مع زعماء العرب في الداخل المحتل، على اختلاف انتماءاتهم السياسية، وزيارته لمصر، والتقائه عددا من الساسة وعلماء الدين.
الاهتمام بالقدس
عام 2001 قدم الشيخ استقالته من رئاسة بلدية أم الفحم، في خطوة فاجأت الوسط العربي، وهو في أوج عطائه، خاصة أنه أول رئيس بلدية يقدم على مثل هذه الخطوة، في الوقت الذي أشارت جميع الاستطلاعات أنه كان يستطيع الفوز بمنصبه لدورات قادمة, لكنه آثر التفرغ الكامل للدعوة, وخدمة مشروع إعمار وإحياء المسجد الأقصى.
وبدأ نشاطه في إعمار المسجد وبقية المقدسات يتعاظم منذ عام 1996، وأفشل المخططات الساعية لإفراغ الأقصى من عمارة المسلمين، عبر جلب عشرات الآلاف من عرب الداخل للصلاة فيه من خلال "مسيرة البيارق".
ونجح هو وزملاؤه في إعمار المصلى المرواني داخل الحرم القدسي، وفتح بواباته العملاقة، وإعمار الأقصى القديم، وتنظيف ساحاته وإضاءتها، وإقامة وحدات مراحيض ووضوء في باب حطة والأسباط وفيصل والمجلس، وعمل على إحياء دروس المصاطب التاريخية، وأبرزها "درس الثلاثاء" الذي يحضره خمسة آلاف مصل أسبوعيا في المسجد الأقصى.
كما ساهم بإنشاء مشروع صندوق "طفل الأقصى" الذي يهتم برعاية 16 ألف طفل، وتنظيم المسابقة العالمية السنوية "بيت المقدس في خطر" في شهر رمضان للكبار والصغار، بمشاركة عشرات الآلاف من جميع أرجاء العالم، إضافة لمسابقة الأقصى العلمية الثقافية.
إلى جانب إصدار عدة أفلام وثائقية وعدة كتب عن المسجد الأقصى كشريط "المرابطون"، وكتاب "دليل أولى القبلتين"، وشريط "الأقصى المبارك تحت الحصار"، ورعايته لمهرجان "صندوق الأقصى".
ونجح في التأسيس بشكل رائع لمهرجان عالمي تغطيه عشرات القنوات الفضائية العربية والأجنبية في مدينة أم الفحم باسم "الأقصى في خطر"، يحضره ستون ألف فلسطيني.
انتخابات الكنيست
شكل الموقف من مشروعية خوض انتخابات الكنيست خلافا قسم الحركة الإسلامية داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 48، وقاد الشيخ رائد صلاح الجناح الأكبر في الحركة الإسلامية، الذي رأى في خوض هذه الانتخابات والانضواء تحت لواء الكنيست خطرا يهدد الهوية الفلسطينية، وقد انبنت رؤيته على جملة من الدوافع التي رآها تشكل موقفا بديلا وتتلخص في:
1- ترك العمل البرلماني كخيار سياسي للجماهير والتوجه نحو مأسسة المجتمع العربي، وبناء قدراته الذاتية بعيدا عن السياسة الإسرائيلية، وفي هذا الصدد يقول: "تحدد المؤسسة الإسرائيلية دور عضو الكنيست العربي، وتجعله هامشيا وإعلاميا فقط، ونحن في الحركة الإسلامية لا نريد إشغال هذا الدور، ونطمح للبقاء في موقعنا الذي وصلنا إليه، وتقوية مؤسساتنا أكثر".
2- الدعوة بشكل صريح لمقاطعة الانتخابات، والعمل على تعزيز قدرات المجتمع الفلسطيني في مأسسة المجتمع العربي، وبناء ذاته بالتخلي عن العمل البرلماني.
3- التطلع لتحويل فكرة المجتمع العصامي من مشروع للحركة الإسلامية إلى مشروع للجماهير العربية، والنجاح بتحويل قضايا المقدسات عموما وقضية المسجد الأقصى خصوصا لتحتل رأس سلم أولويات الأجندة السياسية والجماهيرية في الداخل.
4- تحويل مشروع "الأسلمة" إلى التحدي الأول والعقبة الأساسية لمشروع "الأسرلة"؛ حيث أفاد استطلاع إسرائيلي للرأي نشر عام 2002 أعده معهد "داحاف" أن 44% من مسلمي الداخل عادوا للالتزام الديني؛ بسبب تعاظم قوة الحركة الإسلامية.
ولعب الشيخ دورا كبيرا، ليس فقط في رفع نسبة المقاطعة في انتخابات الكنيست 2003، بل بالمقاطعة الجارفة في انتخابات رئاسة الحكومة عام 2001؛ حيث وصلت نسبة المقاطعة إلى 82% من المصوتين العرب.
المجتمع العصامي
شكلت "هبّة أكتوبر 2000" التي اندلعت في الوسط العربي تعاطفا مع انتفاضة الأقصى، مفصلا هاما في بلورة وعي الشيخ رائد حول المسار الذي يتوجب على عرب 48 سلوكه بعد مرور 50 عاما من العمل السياسي داخل الدولة، وتمثل بتوجهه بخطوطه العريضة نحو ما أسماه "بناء الذات والاعتماد عليها"، وما أطلق عليه بناء "المجتمع العصامي".
وكان الدافع الأساسي لطرح المشروع، أنه لاحظ قصورا كبيرا في تنظيم المجتمع العربي، وشكل الخلل التنظيمي على جميع الأصعدة عاملا دفعه للتفكير بمشروع رائد ومحلي لإعادة تنظيم بنى المجتمع العربي.
ولم تكن استنتاجاته في هذا المجال فكرية فقط تتعلق بمستقبل علاقة الدولة مع العرب أو بالعكس، أو العلاقة الداخلية بين مكونات المجتمع العربي، بل نالت سائر الأصعدة التنظيمية على مستوى ترشيد الجماهير نضاليا.
ويشرح الشيخ رائد صلاح قناعته السابقة بالقول: "كيف ننتقل إلى مجتمع منتج يملك القدرة على أن تكون لقمة طعامه من صنع يديه؛ مما يساعده على الصمود في قضاياه المصيرية؟ وبناء عليه نستطيع أن نصرح داعين وسطنا العربي؛ لأن يبدأ بإقامة مؤسسات منتجة في التجارة والصناعة والتموين".
وتلقت إسرائيل فكرة "المجتمع العصامي" بنوع من الشك، واعتبرته مشروعا انفصاليا، ومقدمة لحكم ذاتي انفصالي، وتعميقا للمنهج الانفصالي التي تسير حسبه الحركة الإسلامية.
"الجهاد" المدني
صاغ رائد صلاح مشروعا حضاريا متكاملا خاض على قاعدته "ملحمة مدنية"، تمثلت بـ:
1- بقاء الشعب في أرضه: حيث قامت الحركة الإسلامية بتأمين الحياة المعيشية وتحسينها، ووقاية للناس من حملة التجويع والحصار المفروض عليهم، عبر مسلسل لا يتوقف من زيادة الضرائب والغرامات الباهظة والرفع المتعمد للأسعار، والحرص على عدم شحّ المواد التموينية.
2- الحفاظ على الهوية الإسلامية: من خلال إحياء الروح الإسلامية والالتزام الإسلامي عبر "قوافل الدعاة" الذين جابوا الأرض، يربطون الجماهير بهويتها، تربية وعملا ومعاملات، وانطلاق حركة واسعة من العمران استهدفت ترميم المساجد والمؤسسات الإسلامية التي تحولت إلى متاحف وإسطبلات وبارات للخمر، وأوشكت على السقوط، ما أعاد للأرض والعمران سمتهما الحقيقي.
تبعات الانشقاق
لئن كان السبب الظاهري للانشقاق الذي حل بالحركة الإسلامية في فلسطين المحتلة يتمثل بقرار المشاركة في انتخابات الكنيست، فإن هناك أسبابا أخرى، داخلية وخارجية، دفعت باتجاه بروز هذا الشرخ الفكري والتنظيمي.
وقد كان ثمن الانشقاق كارثيا على مجتمع الداخل الفلسطيني على الرغم من أن الشيخ رائد دفع بقضية الأقصى لتكون المحور الذي تدور حوله، وليشكل رافعة سياسية وتربوية وأخلاقية للحركة والمجتمع, فإن ما حصل فيها من فعل ورد فعل أدى لدخول المجتمع أزمة تدين ساعد عليها الانفتاح "المعولم".
ومع ذلك، فقد رأى الشيخ، وإن لم يصرح، اتساع الشقة بين قيادات الحركة فيما بات يعرف بـ"الجناحين"، الشمالي والجنوبي.
وبعد حدوث الانشقاق فعليا، بات من الواضح أن هناك مدرستين في الحركة الإسلامية، لكل مدرسة قبلتها وفلسفتها التي تطورت ببطء شديد خلال سنوات التسعينيات، وتطورت مسرعة بعد ذلك, بعد الانشقاق، ولكل منهما مرجعيته السياسية والشرعية، ومع ذلك، فقد آثر الشيخ رائد الإبقاء على تواصل واضح ومعروف مع مختلف أقطاب الحركة الإسلامية من كلا الجناحين.
تلك أبرز المواقف والرؤى السياسية والفكرية والميدانية للشيخ رائد صلاح، وهي تجربة جديرة بالدراسة، والتقييم، والاستكشاف؛ نظرا لما رافقها من تغيرات كان لها الدور الكبير في إبقاء مفاهيم الحركة الإسلامية في وجه المؤسسة الإسرائيلية على ما هي عليه منذ أكثر من ثلاثين عاما دون تغيير أو انحراف، بالرغم من حالة الانشقاق التي عاشتها، وتعافت منها مع بعض الجراحات هنا وهناك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق