- بلادى توداى
- 2:26 ص
- أبحاث ودراسات
- لا توجد تعليقات
الدنيا دار امتحان
خلق الله سبحانه وتعالى البشر, وجميع المخلوقات الأخرى, لغرضٍ أوضحه سبحانه في القرآن الكريم الذي أنزله هدىً للناس كافة ً:
( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ) (سورة المؤمنون : 115) . ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) (سورة الذاريات: 56 ) .
إذن, فما وجد الإنسان إلا لعبادة الله سبحانه وتعالى، وأعمار البشر تقدر تقريبا بين ستين وسبعين عاماً, وما أشبه عمر الإنسان بالساعة الرملية حيث ينصرم العمر لحظة فلحظة دون توقف. فكل إنسان يمكث في هذا العالم مدة زمنية لا يعلم مداها إلا الله تعالى، ويجري ذلك تبعاً للقدر الذي حدده سبحانه، ولا يملك أحدٌ من الخلق له تبديلاً. وكل شيء آيلٌ لنهايته المحتومة عند حلول الأجل (... وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ ) ( سورة الرعد: 26 ) .
فكل شيء هنا ينمو ثم يذوي، وهو متوجهٌ سريعاً نحو دارالفناء. فالزمن كفيلٌ بإفناء الأحياء والأشياء, لذا, فالمتمسكون بهذه الحياة الزائلة هم إلى خسران مبين.
وكثيراً ما كان المفكر الإسلامي العظيم بديع الزمان النورسي يذكّـر قرّاءهُ بمعنى الفناء الذي يميز هذه الحياة الدنيا ويحثهم على بذل أقصى ما بوسعهم لينالوا شرف نعيم الحياة الآخرة الحقيقية. يقول الشيخ النورسي رحمه الله تعالى: "ما الحياة الدنيا سوى بيت ضيافةٍ والإنسان نازلٌ فيه لمدة وجيزةٍ وهو مثقلٌ بالواجبات, فينبغي أن ينشغل بالإعدادات الضرورية استعداداً للحياة السرمدية" .
فبديع الزمان يشبّه قِصَرَ الحياة الدنيا بزيارةٍ مؤقتةٍ. ويقول في مثالٍ آخر: "أيا روحي الحائرة ويا صديقي اهتد إلى رشدك ولا تبعثر جوهر حياتك وقدراتك على شهوات الجسد في هذه الحياة الزائلة كالأنعام أو أدنى منها منزلةً. وعلى فرض أنك أقوى من البهيمة خمسين ضعفاً, فإنك ستهوي خمسين منزلة ًدون منزلتها".
وكما قال النورسي رحمه الله تعالى فالإنسان إنما ركبت فيه هذه الصفات المعجزة كالذكاء والضمير وحسن الفهم لا ليلهث وراء الشهوات الحسية المؤقتة لحياةٍ دنيوية واضحة العجز, ولكن لينال بها جمال الخلود, وبهذا فحسب يجتاز الإنسان امتحان الحياة الدنيا.
يُمتحنُ الناسُ وفقا لاستجابتهم لمجريات ما لاقَوهُ في الحياة الدنيا وما مارسوه ضمن دائرة قيمهم الأخلاقية. ومن الواضح أنه لا يكفي لأحدهم أن يقول "أنا مؤمن" بل ينبغي أن يترجم ذلك الإيمان قولاً وعملاً وسيُكشفُ يوم القيامة كل ما عملوا من شؤونهم الخاصة والعامة, وسيُقدمُ لهم كشف مفصل لما عملوه. فلن يُظلموا شيئا, والحال كذلك أبداً, والقرآن الكريم يقول: ( وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) ( النساء: 49)
فالذين أثقلت أعمالُ البر موازينهم سيكافئون بنعيم الجنة المقيم, أما الذين اتخذوا الشيطان والظلم لهم سبيلاً فمصيرهم نار جهنم خالدين فيها. فما خلق الله الحياة الدنيا سوى ابتلاءً وتمحيصا. يقول عزّ من قائل: ( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (سورة الملك : 2) .
مقايضة الحياة الآخرة الباقية بالحياة الدنيا الفانية
من أعظم أخطاء اللادينيين اعتقادهم أن الحياة الدنيا دار خلود وبقاء, غير مدركين أنهم يخضعون في هذه الحياة لامتحانٍ انتقالي, لهذا فشهوات الدنيا الفاتنة تضلهم معتقدين أن ما كسبوه إنما هو نتيجة حتمية لما بذلوه من جهد, ولذلك يُداخلهم إحساسُ الاكتفاء بذواتهم. وينسى الناس في المجتمعات الكافرة الحياة الآخرة فينشغلون في محاولة الحصول على ملذات يحسبونها ذات قيمة، بينما يخبرنا الله تعالى في القرآن الكريم: ( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) ) ( سورة آل عمران: 14-15) .
فللناس كما أوضحت الآية رغباتٌ كثيرةٌ, ويسعون لنيل ملذاتٍ وأغراضٍ لا تعود عليهم بكبير فائدةٍ, لأن حياتهم الحقيقية تنتظرهم هناك في الدار الآخرة حيث البقاء والخلود. والآيات التالية توضح هذا المفهوم، يقول تعالى: ( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46)) ( سورة الكهف: 14-15 ) .
وكما بين النص القرآني, فكل ما يوجد في الدنيا من أموال وثروات وزوجات ومنازل وجاه ووظيفة وغير ذلك, ما هو إلا لعبٌ عابر مصيره الزوال مع موت الإنسان وحلول أجله المحتوم.
ولكنّ كثيرا من الناس لا يدركون أن هذه الأعراض مصيرها الزوال, فينغمسون في تحصيل المزيد من الملذات المادية, والمحرمات, ويسعون في الحصول على السمعة والشهرة بين الناس, فهم مشدودون عاطفيا لهذه المعاني, متناسين تماماً كل ما يشدهم إلى الآخرة دار الخلود والبقاء. ولهذا, فهم لا يعدون للآخرة عدتها معتقدين أن الموت يعني النهاية والفناء.
وكما قال العلامة بديع الزمان, فالموت لا يعني مجرد الانفصال عن هذه الدنيا أو حتى الفناء, بل هو نهاية ابتلاءات الحياة الدنيا, وهو المكان الذي ينال فيه الناس جزاء ما عملوا في الحياة الدنيا :
"فلم يعد الموت مخيفا كما يتجلى ظاهريا, وكما أثبتنا بالأنوار التي أشرقت على رسائل النور لجمهور المؤمنين بيقين لا يعتريه ريب ولا شك في أن الـموت للـمؤمن خلاص وانعتاق من كلفة وظيفة الـحياة ومشقتها.. وهو تسريح من العبودية التي هي تعليم وتدريب في ميدان ابتلاء الدنيا.. وهو باب وصال لالتقاء الأحبة والـخلاّن الراحلين إلى العالـم الآخر.. وهو وسيلة للدخول في رحاب الوطن الحقيقي والـمقام الأبدي للسعادة الـخالدة.. وهو دعوة للانتقال من زنزانة الدنيا إلى بساتين الـجنة وحدائقها.. وهو اللحظة الواجبة لتسلم الجزاء على الـخدمة الـتي تم أداؤها، ذلك الجزاء الذي يغدق بسخاء من خزائن فضل الـخالق الرحيم".
فما دامت هذه هي حقيقة الـموت – على الوجه الصحيح – فلا ينبغي أن يُنظر إليه على أنه شيء مـخيف، بل يـجب اعتباره تباشير رحـمة وسعادة.
ومن الخطأ الفادح أن نظن أن هذه الدنيا دار بقائنا إذا قارناها بخلود الآخرة ودوامها, ويتبين بالمقارنة أن حياتنا الدنيا لا تدوم سوى لحظات قصيرة. يقول النورسي رحمه الله:
"وكذا يخبر بصدق عن مستقبل، ليس مستقبل الدنيا بالنسبة إليه إلا كقطرة سراب بلا طائل بالنسبة إلى بحر بلا ساحل. وكذا يبشّر عن شهود بسعادة، ليست سعادة الدنيا بالنسبة إليها إلاّ كبرقٍ زائلٍ بالنسبة إلى شمس سرمدية".
والمسلمون, بعيداً عن هؤلاء الذين تجردوا من أخلاقيات القرآن, عندما تطالعهم فكرة الموت لا ينفرون مذعورين, بل يستشرفونها بشوق عظيم آملين أن ينالوا كرامةً من بارئهم, جزاء ما قدموا من بر وخير في الحياة الدنيا. فقد عاشوا الحياة الدنيا وكلهم أملٌ وثقة بالله سبحانه أن يدخلهم الجنة حيث النعيم والمسرات التي لا ينضب معينها.
وترينا الآيات التالية صورة أولئك النفر الذين كان جل همهم منصبٌ على تحقيق ملذات الحياة الدنيا ومتاعها: ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ) ( سورة البقرة: 175 ) .
وقال عنهم, في آية أخرى, أنهم قد ارتكبوا خطأً فادحا. والمثال التالي يدلل على مدى الخسارة الكبيرة التي تكبدوها.
والآن أمعن معي النظر في رجلين أوتيا نصيباً من المال لينفقَ كلٌ منهما كما يطيب له, فبعثرَ أحدهما ماله هباءً حتى أتى على آخره, بينما أنفقهُ الآخرُ محققاً منافع جمّة لنفسه وللإنسانية على حدٍ سواء, ولأحدنا أن يسأل: ما طبيعة شعور الأول إذا نُوقشَ عند الحساب, لن تكون سوى الحسرة البالغة ! .
لهذا, فكل ما نملكه من عقارات وممتلكات ومباني، وما نتمتع به من شهرة واحترام، أو جمال، وجميع النعم الأخرى التي منحت للإنسان في هذه الحياة الدنيا ما هي إلا أدوات لكي يعدّ نفسه للحياة الآخرة. وقد اغتنم المسلمون الأوائل هذه الوسائل بأقصى ما لديهم من جهدٍ لأنهم أدركوا هذه الحقيقة العظيمة.
أما الجاحدون، مثل هؤلاء الذين ينفقون أموالهم يمنة ويسرة دون أي تقدير أو تفكير تلبية لرغباتهم الدنيوية فهم يقضون مدة حياتهم القصيرة مستهينين بكل القيم، وبذلك فهم سوف يعانون غداً الخسران المبين في الآخرة التي هي دار الخلود.
ويصف القرآن الكريم لنا حالتهم هذه فيقول: ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً (105) ) ( سورة الكهف : 103-105) .
وهؤلاء الذين لم تغرهم الحياة الدنيا وتيقنوا أن الآخرة هي الباقية, أدركوا أن طيبات الدنيا زائلة لا محالة, فبذلوا جهدهم لينالوا طيبات الجنة ونعيمها, لهذا فقد ربحت تجارتهم مع الله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) ) ( سورة التوبة : 111 ) .
الله يبتلي بالخير والشر
يتم اختبار المؤمنين في حياتهم الدنيا, كما أسلفنا من قبل, وفق أشكال متنوعة من الابتلاءات أخبرنا القرآن الكريم أنها تتراوح بين معياري الخير والشر: ( وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) ) ( سورة الأنيباء : 34-35)
فالناس عرضة لأن يُمتحنوا بشتى ألوان الابتلاءات, فعليهم, على سبيل المثال, عندما يتمتعون بفائض ثرواتهم أن يفعلوا ذلك متحلين بأخلاق دينهم الحنيف كي ينالوا رضى ربهم عز وجل, مخلصين له أعمالهم ونواياهم, مذعنين لأوامره متبعين إرشاده سبحانه. ولو فتنت ملذات الحياة الدنيا الزائلة الناسَ فانغمسوا فيها وخاضوا غمارها لأذهلتهم عن جوهر الحقيقة التي خلقوا من أجلها, ولكن مهما تكاثرت النعم بأيدي المؤمنين فسيبقون ممتنين شاكرين لله عز وجل مدى حياتهم.
وقد يمتحن الناس كذلك بالمرض والكوارث والضغوط التي يمارسها الكفار عليهم, ويمتحنون بالسيء من القول والسخرية, ولكن المسلمين يدركون أن هذه الإبتلاءات كلها جزءٌ من الامتحان, لذا يتمسكون بالصبر فلا يمسهم السوء ويكونون هم الفائزون. وقد عقد هؤلاء المؤمنون صفقة بيعٍ مع بارئهم عز وجل مقايضين الحياة الدنيا بخلود الآخرة, وهذا القرآن الكريم يقول: ( لَكِنْ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمْ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) ) ( سورة التوبة : 88-89)
أوضحت لنا الآيات السابقة أن الحياة الدنيا تعتبر بمنظور المؤمنين ميدان جهادٍ في الله لا يفترون حتى ينالوا رضوانه سبحانه. ويذكرنا بديع الزمان رحمه الله تعالى أن الدنيا دار كدح وطاعـة يحياها الناس وهي مثقلة بالمكاره والشهوات، وأن جزاء الذين تحملوا مشقاتها ومصائبها بصبر جميل جزاء عظيم , فانظر ماذا يقول :
"إنّ دار الدنيا هذه ما هي إلاّ ميدان اختبار وابتلاء، وهي دار عمل ومـحل عبادة، وليست مـحل تـمتع وتلذّذ، وهي ليست مكانا للأجر ونيل الثواب. فما دامت الدنيا دار عمل ومحل عبادة، فالأمراض والـمصائب، ما لم تكن في الدّين، وبشرط الصبر عليها تكون متلائمة جدّا مع ذلك العمل، بل منسجمة تماماً مع تلك العبادة، حيث أنها تمدّ العمل بقوة وتشدّ من أزر العبادة، فلا يجوز التشكي منها، بل يـجب التحلي بالشكر لله تعالى، فتلك الأمراض والنوائب تحوّل كل ساعة من حياة المصاب عبادة يُنال الأجر عليها ".
إنه من الأهمية بمكان أن نتدبر هذه الكلمات الرّشيدة. وكما بينا سابقا، فالناس ملزمون بطاعة الله والاستسلام لأمره والبقاء على علاقة قوية بخالقهم سبحانه مهما تغيرت الظروف وتلونت. ولعل الصبر على المكاره والمنغصات التي تحفل بها الحياة الدنيا هو إحدى أوجه هذه العلاقة المتينة مع الله سبحانه وتعالى. وقد يحمل الزمن لنا مكاره لم تكن في الحسبان, فتنتهي أو تدوم إلى ما شاء الله أن تدوم. فمثلاً, قد يفتقر غنيٌ , وقد يواجه إنسانٌ ناجحٌ فشلاً مفاجئاً, وقد يفقد آخر محبوبه, أو يصبح رهن المرض أو الإعاقة. وبغض النظر عن مفهوم الاختبار, فإن الله سبحانه وعد الذين يحسنون الصلة به ويبقون مقيمين على طاعته, وعدهم بنعيم لا نفاد له: ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُور (186) ) ( سورة آل عمران : 185-186) والبقية تأتى بإذن الله تباعا .
هارون يحيى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق