- بلادى توداى
- 3:26 ص
- أبحاث ودراسات
- لا توجد تعليقات
المسلم أوقات الشدائد (2)
التمييز بين الخيـر والشـرّ
خلق الله سبحانه الخير والشرّ, والجمال والقبح على حدٍ سواء, وجعلهم اختبارات على الطريق إلى الجنة أو إلى النار, حيث يتمايز الخير بوضوحٍٍٍ عن الشر طيلة زمن الاختبار؛ فهناك المؤمنون الصابرون, وهناك أيضاً الضعاف الذين لا يتحملون مواجهة الشدائد, وهناك فريق أخذ على عاتقه مواجهة تيارات الإلحاد وإنكار الدين، وهناك فريق آخر يكتفي بموقف المتفرج على الأحداث لا يقدم ولا يؤخّر, وثمة أناس كثيرون ضعُفت عزائمهم أمام نفوسهم الأمّارة بالسوء فلم يصغوا لنداء فطرتهم السليمة.
التمييز بين الخيـر والشـرّ
خلق الله سبحانه الخير والشرّ, والجمال والقبح على حدٍ سواء, وجعلهم اختبارات على الطريق إلى الجنة أو إلى النار, حيث يتمايز الخير بوضوحٍٍٍ عن الشر طيلة زمن الاختبار؛ فهناك المؤمنون الصابرون, وهناك أيضاً الضعاف الذين لا يتحملون مواجهة الشدائد, وهناك فريق أخذ على عاتقه مواجهة تيارات الإلحاد وإنكار الدين، وهناك فريق آخر يكتفي بموقف المتفرج على الأحداث لا يقدم ولا يؤخّر, وثمة أناس كثيرون ضعُفت عزائمهم أمام نفوسهم الأمّارة بالسوء فلم يصغوا لنداء فطرتهم السليمة.
ولعل هناك سببًا جوهريّا لهذا الارتباط القوي بين مفهومي الخير والشر, حيث لا يمكن أن تُدركَ قيمةُ الخير إلا من خلال هذا التباين بين المفهومين.
فلا يمكن للناس مثلاً فهم قيمة الخير إذا لم يكن للشرّ والحرمان والبلايا من وجود. فضع مثلاً ألماسةً بين كومة أحجارٍٍ عاديةٍ, فستراها ازدادت حُسناً وبريقاً.
ويكمن سرٌ آخرٌ وراء ابتلاءات الحياة الدنيا الزائلة, حيث يُمتحن الناسُ بالشر والخير ويصبح الفارق بين الخير والشر جلياً نتيجة هذا الامتحان، فالخير يوجد في جوانب كثيرة من الحياة، وبجانبه الشر الذي لا ينفك يصارعه. فحين ينتزع مَلَكُ الموت أرواح الأشرار انتزاعاً رهيباً, يُدعى أهل الصلاح لدخول الجنة حيث النعيم والجمال السرمديين. ويبين القرآن لنا أن هذه الاختبارات هي السبيل التي يتمايز فيها المؤمنون عن أولئك الذين امتلأت قلوبهم إنكارا وجحودا: ( وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) ) ( سورة آل عمران: 166-167)
ذكرت هذه الآيات, أن سلوك صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواجهة الشدائد هو الفيصل الذي يميز المؤمنين الصادقين عن غيرهم من المنافقين.
وقد ذكر بديع الزمان رحمه الله هذه الفكرة بعمق موضحاً كيف أن الشدائد والملمّات تميّز بين الخير والشر, وقدّم لنا حكمة وإرشاداً بالغين حول هذه المسألة عندما سُئلَ عن الحكمة من خلق الشيطان ووجود الشرّ , فأجاب رحمه الله: إن هناك أسباباً جوهرية تكمن وراء كل مشقةٍ وحرمانٍ ومكروه، وأهم الأسباب هو أن نفرق بين الموقف الهابط الوضيع وذاك السامي الرفيع.
وقدّم لنا مثالاً ليرينا أن الكرب والشدّة يفجّران أعظم ما في الإنسان من طاقات بناءةٍ . فابتلاءات الحياة الدنيا تُلقي الضوء عادة على أسوإ ما في الإنسان من صفات, إذ تمنحهُ الفرصة المناسبة لإصلاحها. فوجود مرضٍ عصيبٍ في إنسانٍ ما قد يدلنا على وجود اختلالٍ في شخصيته أو خواءٍ في روحه. فهذه امرأةٌ تكشفت لها بعض عيوبها, فهي تبادر لتوها إلى إصلاحها في حياتها قبل فوات الأوان, وتتخلص بعد هذه السقطة من كل شائبة وتحسنُ أخلاقها. وهذا رجلٌ ذو سمعة حميدةٍ شريفةٍ أفلس لسببٍ ما ثم لجأ لوسائلٍ غير شرعيةٍ لتحصيل المال ثانيةً. أرأيت كيف أن البلاء قد يُظهر صفات سيئة عند إنسان ما, ولو أن هذا الإنسان لم يرتكب إثما لما وضع شرفه موضع ريبةٍ رغم حاجته للنقود.
يوضح لنا بديع الزمان رحمه الله تعالى في هذه الرسائل مواقف لا بدّ أن تتحول لاحقاً إلى خيرٍ محضٍ , فكتب قائلاً :
"فوجود الشر والأذى, والبلاء والمكروه والمعاناة في الكون ليس بالأمر السّيئ أو المستقبح بالضرورة , لأن هذه المعاني إنما خُلقت لغرضٍ مهمٍ , فالتقدم والتراجع شيئان لا بد منهما في حياة البشر, فهناك فرقٌ كبير مثلاً بين النمرود والفراعنة من جهةٍ , والأنبياء عليهم السلام والأولياء من جهة أخرى . ولكي نميز الأرواح الخبيثة عن تلك الأرواح الطاهرة السامية , كان خلق إبليس فتحاً لميدان الصراع والمنافسة والاختبار, وبُعثتْ الرُسلُ الكِرام لتميط اللثام عن عظمة سرّ التكاليف الإلهية. فلولا وجود الصراع والمنافسة لبقيت الصفات الخبيثة وتلك الحميدة كامنة بلا تمايز في أصل الوجود الإنساني, ولبقيت تلك الروح السامية الرفيعة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه كتلك الروح الوضيعة لأبي جهل وعلى نفس المستوى دون تمايز, مما يثبت لنا أن خلق الشر والقبح ليس بالضرورة أمرًا رديئاً أو سيئا طالما أنهما يؤديان إلى نتائج حميدة" .
وهناك موضوع آخر تظهر من خلاله أهمية ابتلاءات الحياة الدنيا, فلو لم هناك شر أو بلاء في هذه الدنيا, لبقيت سمات الخير في شخصية الإنسان المؤمن كامنة دون أن تظهرَ على جوارحهِ و لأصبحنا غير قادرين على رؤية صفات الصلاح والبر لدى عباد الله المخلصين , ولن يكون بإمكان الإنسان المؤمن الترقي في درجات السمو الروحي. لذا , فكل حادثةٍ تبدو سلبيةً في ظاهرها إنما تفتح آفاقاً لا حدود لها من الترقي لتصل بالإنسان المسلم إلى درجة الكمال الخلقي وتعمق بعده الروحي وترفع درجته ومكانته في الجنة إن شاء الله تعالى . كتب بديع الزمان رحمه الله تعالى موضحاً :
"يشكل الدين امتحاناً , أو اختباراً ارتآهُ الله سبحانه لكي تتمايز الأرواح السامية الرفيعة عن تلك الأرواح الدنيئة الوضيعة في ميدان سباق الحياة . وإليك الآن هذا التمثيل الرائع, تماماً كما نُدخلُ المواد الصلبة في النار كي نفصل الماسَ عن الفحم , والذهب عن الخبث , كذلك الدين يشكل مجموعة تكاليف فرضها الله على الإنسان ليدخل في ميدان منافسة فسيحة تشكل الفرائض أهم عناصرها. فالدرر القيمة في منجم قدرات الإنسان تنفصل عن تلك المواد الخبيثة , وقد تنزل القرآنُ الكريمُ لكي يرقى بالإنسان إلى حدود الكمال الإنساني وهو يقدّمُ الاختبار تلو الاختبار في ميدان سباقٍ شاسع".
فينبغي أن تتمايز الصفات الحميدة الراقية , وفقاً لهذه المقارنة , عن تلك الخبيثة الوضيعة, ولا يتم ذلك التمايز إلا باستخدام النار والمقصود بها الفترة الزمنية المشحونة بالابتلاءات المريرة, كالشدائد والنكبات والمنغصات المختلفة وذلك لتخليص النفس البشرية من الصفات الخبيثة الكامنة في فيها, لتشرقَ بعدها شمائل الخير والصلاح على ضوء الإيمان واليقين.
وقدّم لنا بديع الزمان رحمه الله تعالى مثالاً آخر حول عملية فرز الذهب عن النحاس والمادة الخام الأخرى, وضرورة ضربهما "بحجر المحك" لينفصلا بهذه العملية عن بعضهما البعض مادتين قيّمتين, ثم يُزالُ خبث النحاس الذي لا خير فيه, ثم تُضرب المادة الخام بحجر المحك بقوّةٍ وتوضعُ في منخلٍ ناعمٍ ليتضح لنا وجود معدن الفضة فيُنقى من معدن النحاس الذي يقللُ من قيمتهِ . والسؤال : ماذا يقصد أستاذنا من "الضرب بحجر المحك"؟ هل هي معاناة المشقات والنكبات ومختلف أصناف المتاعب التي تكشف الجمال الباطني الكامن في داخل الإنسان ؟ إن قسوة المشقات والمحن تُظهرُ قوة إيمان الإنسان وتفوق شخصيته, وتميّزها عن غيرها. ومن بين نتائج هذا الاختبار أيضاً نضج شخصية المؤمن وتقوية الإيمان وتثبيت الجوانب الروحية فيها. إذاً , بهذه العملية يتم تطهير شخصية الإنسان المؤمن المتميزة من كل الصفات السلبية حتى تبدو وكأنها معدن ثمين. يقول بديع الزمان رحمه الله تعالى :
"وفجأة اُخطر للقلب صباح هذا اليوم ما يلي: إنّ دخولكم هذا الامتحان القاسي، وتمييزكم الدقيق في المحك مرات عدة ليخلّص الذهب من النحاس، واختباركم من كل جانب بتجارب ظالمة لمعرفة مدى بقاء حظوظ نفوسكم الأمارة ووساوسها، ومن ثم تمحيصكم تمحيصا دقيقا، كان ضرورياً جدًّا لخدمتكم التي هي خالصة لوجه الحق والحقيقة، لذا سمح القدر الإلهي والعناية الربانية به، لأن الإعلان عن هذه الخدمة السامية، في ميدان امتحان كهذا، تجاه معارضين عنيدين ظلمة يتشبثون بأتفه حجة .. جعل الناس يفهمون أن هذه الخدمة القرآنية نابعة من الحق والحقيقة مباشرة، ولا تداخلها حيلة ولا خداع ولا أنانية ولا غرور، ولا غرض شخصي ولا منافع دنيوية ، إذ ما كان عوام المؤمنين يثقون بها لولا هذا الامتحان، حيث كان لسان حالهم يقول: ربما يقولون ليغرروا بنا ويخدعوننا. ويرتاب خواص المؤمنين ويقولون: ربما يعملون هكذا رغبة في الوصول إلى مقامات معينة، وكسباً لثقة الناس بهم ونيلاً للإعجاب، كما يفعله بعض أهل المقامات الرفيعة، وعندئذ لا يثقون بالخدمة. ولكن بعد الابتلاء، اضطر حتى أعتى عنيد مرتاب إلى التسليم بالأمر. لذا إن كانت مشقتكم واحدة فإن ربحكم ألف إن شاء الله" .
لفت بديع الزمان رحمه الله تعالى انتباهنا, من خلال هذه الأمثلة, إلى أسباب أخرى لهذه المنغصات والشدائد حيث يستلهمُ الناسُ من أولئك المؤمنين سلوكهم الأخلاقي الرفيع وسبيل تخلصهم من صفاتهم السلبية أثناء مواجهتهم لتلك الابتلاءات.
فإخلاص المؤمنين وما يعيشون به من سلوك أخلاقي رفيع وتحليهم بالاستقامة سيبدو جليا أثناء معاناة الشدائد المريرة, فيلحظ عامة الناس هؤلاء المؤمنين وليس لهم من غرض مادي ولا مكافأة ينتظرونها من أحد عما يقدمونه من طاعات امتثالا لأمر ربهم عز وجل ، وسيعترف عندها حتى الذين يثيرون الريبة والشكوك حول المسلمين أن كل جهد قدمه ذلك النفر المؤمن لا باعث له سوى رضوان الله سبحانه، وسيشهد الجميع بطهارة أهدافهم وسموها، وسيقدّرون ما بذلوه من تضحية في سبيل الحق، وهذا ما يثبّتهم ويزيدهم قوة وعزما.
هارون يحيى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق