- بلادى توداى
- 3:16 ص
- أبحاث ودراسات
- لا توجد تعليقات
المسلم أوقات الشدائد (1)
تتكشف سمة الإيمان للإنسان المسلم وسلوكه الأخلاقي بجلاءٍ عند وقوع الشدائد. ففي هذه الأوقات العصيبة نرى الأخلاق السامية للمؤمنين, وشجاعتهم, وثقتهم بالله ووعيهم, وصبرهم ورباطة جأشهم, والاستعداد للمسامحة وتضحيتهم, ورحمتهم وإنسانيتهم وتقديرهم, وضميرهم الحيّ وسكينتهم.
ويشير تعبير "المسلم أوقات الشدائد" إلى الفرد الذي يتجشم عناء كل عنت ومشقةٍ وحرمانٍ وهو يبدي تلك الشمائل الرفيعة السامية. فمثل هؤلاء القوم لا يساومون على أخلاقهم, بل يتصدون لكل مكروه بتبصرٍ ووعي وثقة بالله تعالى, ويراقبون كل ما يحدث وما يمكن أن يحمله من إيجابية, داعين الآخرين إلى التزام بهذه الأخلاق الرفيعة نفسها. وكما يقول القرآن الكريم : (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ (10) ) ( سورة الأحزاب : 10) .
وعندما نتكلم عن أوقات الشدة, مثل الكوارث الطبيعية, وفقدان العمل أو الإفلاس وما شابهها من أحداث, يتبادر إلى أذهاننا نماذج من أناسٍ لا يعرفون لله سبحانه وتعالى قدراً. أما أولئك الذين يتحلون بالإيمان, فاللحظات الصعبة تعني مواقف جدّية قد يُحرمُ معها المُسلمونَ أبسط متطلباتهم الضرورية, حيث تصبح المنغصات أشد خطورة من تلك التي اعتادوها في حياتهم اليومية. ويصف لنا القرآن الكريم الوقت الذي تبلغ فيه القلوب الحناجر بأنها فترة يقع فيها كل ما يمكن تخيله من شدّةٍ ومرضٍ ومصيبةٍ تحدث للإنسان آخذٌ بعضها بزمام بعض, كمن يُلقى بهم خارج منازلهم, أو وقوعهم في شراكٍ نصبتْ لهم أو لأهلهم فيصبحون في مشقة وحزن شديدين.
وقد أورد القرآن الكريم نماذج لمثل هذه المشقات التي لاقاها الأنبياء عليهم السلام والمؤمنون المخلصون. وقد تحمّل المؤمنون أصنافاً مختلفةً من الابتلاءات الشديدة لأن الله سبحانه خاطبهم بقوله : ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) )( سورة البقرة : 214) .
يخبرنا الله عز وجل في هذه الآية أن المؤمنين سيتعرضون لشدائد كثيرة, فالذين صبروا واحتسبوا سيُرضيهم الله تعالى ويجزيهم خير الجزاء. وأوقات الشدائد تميز بين المؤمنين الصادقين والمؤمنين ضعيفي العزائم الذين همهم العيش في الرخاء والبحبوحةُ. أما مسلمو الصنف الأول فإنهم يستجيبون عند وقوع الشدائد والكربات بقولهم:
( الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) ) ( سورة البقرة: 156) .
صوت الضمير وصوت النفس الأمارة أوقات الشدائد
يستمع الناس عندما يواجهون أية شدّةٍ أو منغّصٍ لنداءين منبعثين من عالمهم الباطن, أحدهما صوت ضميرهم الحيّ يحثهم على التزام السلوك الذي يرضي الله عز وجل مضحين بالنفس ثابتين على الشجاعة والاستقامة. فالذين أصاخوا لهذا النداء سيختارون الصبر لوجه الله والثقة به سبحانه. وينبعث النداء الآخر من النفس الأمارة التي وصِفتْ بحق "الأمّارة بالسوء"، وهو نداءٌ يحث على العصيان والفسوق والأنانية والجبن, جالباً لأولئك الذين استجابوا له الخسران المبين ليصبحوا للشيطان قرناء. ولتوضيح مدى الخسران الذي يتكبدونه من جراء صفقةٍ عقدوها مع الشيطان, كان من الضروري أن نعلمَ كيف مارس الشيطان ُ تأثيره عليهم. فقد قدّم القرآن الكريم معلوماتٍ مفصّلةٍ في هذا الموضوع وحذر الناس من مغبة الوقوع في شراكه.
فعندما خلقَ الله آدمَ عليه السلام أمر الملائكة والشيطانَ أن يسجدوا له, فسجد الملائكة طائعين, وأبى إبليس بكبرياءٍ وتغطرسٍ أن يفعل كما فعل آدم عليه السلام, فطُردَ من الجنة لعصيانهِ. ثمّ إنه طلب من الله أن يُمهله إلى يوم القيامة ليحاول إغواء الناس. فأجابه الله سبحانه إلى طلبه مُعلِماً إياه أنه لن يكون لهُ سلطانٌ على عباده المؤمنين. عندها أقسم الشيطان أن يُغوي الناس بما يقدّمهُ لهم من وعودٍ كاذبة وخداع ٍو ما يعده لهم من شراكٍ يقعون فيه ليُضلهم عن الصراط المستقيم. ويذكر لنا القرآن الكريم هذا القَسَم: ( قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) ) ( سورة الأعراف : 16- 18).
( قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُوراً (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً (64) ) ( سورة الإسراء: 62- 64) .
مثلما ذكرت الآية، يحاول الشيطان بمختلف السُبلِ أن يبعد الناسَ عن الصراط المستقيم, إياهم من تقديم واجب الشكر لخالقهم عز وجل, أو أن يعيشوا حياةً خيّرة, ولهذا فإنهُ يسعى لجرّ الأكثريةَ من الناس ليكونوا في صفّهِ مستغلاً نفوسهم الأمارة. لذلك نرى الناس عندما يقعون في الشدائد, يوسوس لهم الشيطان أنانيةً ألا يفكروا إلا في أنفسهم لتحقيق مصالحهم الشخصية مصوراً لهم التضحية والرّحمة على أنها أمور سلبيةٌ فيها الخسارة لهم: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (169) ) ( سورة البقرة: 168-169) .
فينبغي على المسلمين, لهذه الأسباب مجتمعةً, عند مواجهة الشدائد والمنغصات والكوارث أن يتصرفوا وفقاً لنداء فطرتهم السويّة كي لا يكونوا في صف الشيطان منفذين ما يريده من أنانية وانتهازية وإصرار على الشهوات وكثير من الصفات السلبية الأخرى, وبالتالي ينحرفون عن أخلاقيات القرآن العظيم.
أما المسلمون الصادقون فيستمعون لنداء فطرتهم ويتخذون الصلاح لهم سبيلا. وقد صرّح القرآن الكريم بضرورة إظهار الأخلاق الصالحة: ( طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ (21) ) (سورة محمد : 21) .
يعلم كثير من الناس أن الإيمان الذي يظهر أثناء الملمّات يدلّلُ على سمو الأخلاق, فيقسموا بدورهم أن يبقوا مؤمنين أقوياء في مثل هذه الأوقات العصيبة. ولكن عند الامتحان قد لا ينسجم سلوكهم مع وعودهم التي قطعوها على أنفسهم، وقد يتصرفون بسلبيةٍ عند مواجهة أدنى المنغصات, وفجأة يستشيطون غضباً إزاء أي موقف ويكيلون الاتهاماتِ الساخطة بدلاً من مشاعر الحب والتسامح, ويتحولون في لحظةِ لمواقف الريبة والتمرد والفظاظة. وهنا يتمايز المؤمن القوي عن الضعيف, ويطفو الغثاءُ على السطح. فأما هؤلاء الذين ضَعُفَ إيمانهم فيحرق القلقُ قلوبهم, ويصبحون أقربَ إلى صف الكفار وأعداء الإسلام وممارساتهم منهم إلى صف أهل الإيمان الصادق. بينما تزيد مثل هذه الظروف المؤمنين الصادقين رسوخا في الإيمان وثباتا على الحق.
فكل الشدائد والمصاعب التي نواجهها في حياتنا اليومية ما هي إلا اختبارٌ ووسيلةٌ للوصول إلى السعادة السرمدية التي لا يمكن بحالٍ من الأحوال مقارنتها بما في الدنيا من متاع زائل. هذه السعادة السرمدية والنعيم المقيم الذي يسعى المؤمنون إلى الحصول عليه ونيله في الآخرة. ومن العجب أن هذه الشدائد تزيد المؤمنين المخلصين الصادقين طمأنينة وسكينة وثباتا، وتجلب لهم مزيداً من الحب والاحترام والتقدير من الناس المحيطين بهم. فهي تعد، بالنسبة إليهم، نعمةً إضافية تعمق إيمانهم وترسّخ يقينهم بربهم عز وجلّ. وهي نعمة كبيرة تزخر بفوائد جمة تجعل المؤمنين الآخرين يتخذون تلك الثلّة المؤمنة مثلاً يحتذى به. ولهذا أثر عام على الناس المحيطين بهم بفضل الله تعالى, كما ينالون أيضا تقدير غير المسلمين واحترامهم.
ومن يعتقد أن هناك حدثا ما خارج إرادة القدر الإلهي يكون بالضرورة تحت تأثير سلطان الشيطان القوي المثير الأول لهذه الشكوك, فالشيطان يفرح أيما فرحٍ عند رؤية من يقعون من الناس في شر أحابيله. ويقع إيمان بعض الناس أحياناً تحت تأثير وساوس الشيطان فيعتبرون أن "حدثا ما" ليس له من أهمية واضحة يمكن أن يكون خارج دائرة القدر أو هو بعيد عن تحكم الله تعالى وعلمه وقصده. فينبغي على المؤمنين أن يتنبهوا لمثل هذه الأفكار ويعرفوا كيف يتعاملون معها حال ورودها على خواطرهم.
وهناك شيء آخر يتعين إدراكه، وهو أن فوات بعض الأحداث أو المواعيد، مهما ضعُفت قيمتها وقلّتْ أهميتها له يمكن أن يكون له فوائد جمة. مثال ذلك أن يفوتك برنامجٌ تلفزيونيٌّ محدّدٌ, أو تنسى طلب وجبة طعامٍ، فقد يوفر لك عدم مشاهدة التلفاز عمل برٍّ آخر تؤدّيه أو إبداع أفكارٍ إيجابية, أو قد تصل إلى فكرةٍ تزيد من قدرتك على طاعة الله سبحانه والتبتل إليه, أو تسخير هذه الفترة الزمنية البسيطة لذكر الله عز وجل، فيكرمك الله بأجر كبير ما كنت لتناله لو أنك قبعت أمام شاشة التلفاز. وقد يكون نسيانك طلب وجبة الطّعام سببا في المحافظة على صحتك من أحد الأمراض. وقد يجد المبتلون بضغط الدم العالي أن معدّل السكر قد عاد إلى مستواه الطبيعي عند نسيانهم أكل الشرائح التي تعودوا على أكلها. وهكذا, عندما يُسلمُ المؤمنون أنفسهم ليد العناية الإلهية سيعلو شأنهم في عين الله سبحانه وينالون رضوانه ويصلون إلى حقيقة الحبّ و الرضا .
وهناك أمثلة لا تحصى مأخوذةٌ من حياة الناس اليومية, وعلينا أن ندرك هذه المسألة ولا ندعها تتسرب خارج عقولنا دون فهمٍ ورويّة. فكل ما يواجه الناس من قضايا , كبرت أهميتها أو صغُرتْ هي واقعة لا محالة تحت قدر الله سبحانه وعلمه. ولكن الشيطان يوسوس لنا بالقول إنّ مثل هذه الأحداث أمور أساسية وضرورية لمسيرة الحياة اليومية ولا علاقة لها بقضاءٍ ولا قَدَرٍ. لهذا ينبغي أن يكون المؤمنون على أكمل يقظةٍ و انتباه لرد مثل هذه الوساوس الشيطانية المدمّرة . ولكي نستطيع أن نفهم هذا الأمر لابد أن نبقيهِ حيّاً في أذهاننا, عندها نرى الحكمة والصلاح في كل ما يجري من أحداثٍ, لأن كل ما يحدث إنما يقع وفق خطةٍ إلهيةٍ مرسومةٍ، وهي نعمةٌ عظيمةٌ لأهل الإيمان في هذه الدنيا وفي الحياة الآخرة إن شاء الله تعالى. هذه حقيقةٌ جليلة تمنح للمؤمنين الحكمة والعزيمة والراحة والقناعة.
هارون يحيى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق