- بلادى توداى
- 2:53 ص
- شريعة ومنهاج الإسلام
- لا توجد تعليقات
بقلم: عبد الحافظ السيد
إن الداعية الحي المخلص لدعوته، والمتجرد لفكرته، والمهموم بقضايا أمته، والمبتغي الخير والرقي لوطنه، بشير الهداية والرشاد لأبناء مجتمعه لا بد له من نظرات ثاقبة وقراءات واعية متأنية؛ قراءات يتزود منها على مستوى نفسه لرقيها وصلاحها، وقراءات يستلهم منها ما يعينه على أداء مهمته تجاه مجتمعه؛ لينهض به، ويحدد داءه، ويصف العلاج الناجع له، ومن هذه القراءات:
أولاً: القراءة الواعية لكتاب الله وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم:
إن القراءة الواعية المتأنية لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم زادٌ وأيُّ زادٍ! فمنهما يستقي الداعية ما يصلح النفس، ويزكي القلب، وينير العقل، ويهذب الوجدان، ومنهما يستمد الداعية ما يصلح المجتمع، ويداوي علله وينهض به، والداعية إذا أمعن النظر في تعاليم القرآن الكريم والسنة المطهرة، وجد أصح القواعد، وأنسب النظم، وأدق القوانين لحياة الفرد؛ رجلاً كان أو امرأة, عربيًّا كان أو أعجميًّا، وحياة الأسرة في تكوينها, وحياة الأمم في نشوئها وقوتها ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)﴾ (النحل)، فالقرآن كتاب جامع، جمع الله فيه أصول العقائد، وأسس المصالح الاجتماعية, وكليات الشرائع الدنيوية، ولقد عني القرآن أدق العناية باحترام الرابطة الإنسانية العامة بين بني الإنسان في مثل قوله تعالى: ﴿لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ وأوصى بالبر والإحسان بين المواطنين، وإن اختلفت عقائدهم وأديانهم: ﴿لا يَنْهَاكُمْ اللهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ﴾، كما أوصت السنة المباركة بإنصاف الذميين، وحسن معاملتهم: "لهم ما لنا وعليهم ما علينا".
يعلم الداعية كل هذا، فلا يدعو إلى فرقة عنصرية، ولا إلى عصبية طائفية (من رسائل الإمام البنا- بتصرف)، فهل بعد ذلك نخشى على وحدتنا الوطنية في ظل تطبيق شرع الله.
ثانيًا: القراءة الواعية للتاريخ وأحداثه:
والتاريخ كما يرى مؤلف كتاب (حول أساسيات المشروع الإسلامي لنهضة الأمة) مخزن التجارب الإنسانية الناجحة والفاشلة، وعلى كل من يتحرك لإحداث تغيير اجتماعي في مجتمعه وأمته لا بد أن يُلم بالتاريخ الإنساني؛ كي يتجنب عثرات مميتة، والتاريخ مدرسة التعليم الأساسي في العلوم الإنسانية، منها يستقي المفكرون نظراتهم وتصوراتهم عن مسيرة البشرية وإدراك العبرة من حركاتها، ولهذا اهتم الإمام البنا بدراسة التاريخ دراسة عميقة، فاستمع إلى نظرته التاريخية الثاقبة في رسالة (إلى أي شيء ندعو الناس)؛ حيث يقول:
وإن نهضات الأمم جميعًا إنما بدأت على حال من الضعف، يُخيَّل للناظر إليها أن وصولها إلى ما تبتغي ضرب من المحال، ومع هذا الخيال، فقد حدَّثنا التاريخ أن الصبر والثبات والحكمة والأناة وصلت بهذه النهضات الضعيفة النشأة، القليلة الوسائل إلى ذروة ما يرجوه القائمون بها، من توفيق ونجاح.
وإن نهضات الأمم جميعًا إنما بدأت على حال من الضعف، يُخيَّل للناظر إليها أن وصولها إلى ما تبتغي ضرب من المحال، ومع هذا الخيال، فقد حدَّثنا التاريخ أن الصبر والثبات والحكمة والأناة وصلت بهذه النهضات الضعيفة النشأة، القليلة الوسائل إلى ذروة ما يرجوه القائمون بها، من توفيق ونجاح.
ومن ذا الذي كان يصدِّق أن الجزيرة العربية وهي تلك الصحراء الجافة المجدبة تنبت النور والعرفان، وتسيطر بنفوذ أبنائها الروحي والسياسي على أعظم دول العالم؟
ومن ذا الذي كان يظن أن أبا بكر صاحب القلب الرقيق الليِّن، وقد انتقض الناس عليه، وحار أنصاره في أمرهم، يستطيع أن يخرج في يوم واحد أحد عشر جيشًا تقمع الحصاة وتقوِّم المعوج، وتؤدب الطاغي، وتنتقم من المرتدين، وتستخلص حق الله في الزكاة من المانعين؟.
ومن ذا الذي كان يصدق أن هذه الشيعة الضئيلة المستترة من بني علي والعباس تستطيع أن تقلب ذلك الملك القوي الواسع الأكناف ما بين عشية وضحاها, وهي ما كانت في يوم من الأيام إلا عرضة للقتل والتشريد والنفي والتهديد؟.
ومن ذا الذي كان يظن أن صلاح الدين الأيوبي يقف الأعوام الطوال، فيردّ ملوك أوروبا على أعقابهم مدحورين، مع توافر عددهم وتظاهر جيوشهم؛ حتى اجتمع عليه خمسة وعشرون ملكًا من ملوكهم الأكابر؟
انظر إليه كيف استلهم الإمام البنا الأمل وإمكانية نهوض الأمة بعد كبوتها، وتقدمها بعد تأخرها من فهمه وإدراكه للتاريخ وأحداثه ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ (البقرة: من الآية 269).
ثالثًا: القراءة الواعية للواقع المحلي:
إن قراءة الداعية لواقع وطنه الأليم، وإلمامه بأحواله البئيسة، وما استشرى فيه من الفساد في كل الميادين، وعلى كل الأصعدة، هذا الواقع الذي ألمّ بمجتمعنا أسلمه من سيئ إلى أسوأ ومن محسوبية ورشوة.. إلى ضنك وشدة غلاء.. ومن فساد إداري.. إلى إقصاء المخلصين الأوفياء.. ومن ضعف الأخلاق.. إلى انخداع بقيم غربية تنافي قيم الإسلام، مع هيمنة الفاسدين الرويبضة على مقاليد الأمور بعد إقصاء المصلحين الشرفاء.
إن فهم هذا الواقع وإدراكه يجعل الداعية الأريب يحلِّل العلل ويعرف الداء؛ ليفكر في العلاج والعمل على إصلاح الفساد، ولعل أخطر أدواء الأمة وأشدها فتكًا بها تقاعس المخلصين الغيورين من شرفاء هذا الوطن عن التفكير في علل المجتمع، وعدم تقدمهم للعلاج أو إقصائهم عن ذلك.
رابعًا: القراءة الواعية للواقع العربي والإسلامي:
إن فهم وإدراك أبعاد الواقع العربي والإسلامي وما يتضمنه من سيادة حالة الضعف والهوان، واستشراء حالة التفرق والتشرذم والانقسام التي أطمعت أعداءه فيه، فنهبوا ثرواته، واحتلوا أرضه، وأهانوا شعبه بعد انبهارهم بالغرب وحضارته الغث منها والثمين على حساب الحضارة الإسلامية، بعد تخليهم عنها وعن مبادئها؛ ما أسلمهم ذلك إلى أن صاروا في ذيل الأمم ومتصدري قائمة المتخلفين فيها، إن فهم هذا الواقع أوضح وبشكل يقيني قاطع أنه لا علاج إلا في العودة لشرع ربنا والاعتصام بحبله ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)﴾ (آل عمران).
خامسًا: القراءة الواعية للواقع الدولي:
إن قراءة الواقع الدولي تبرز وبما لا يدع مجالاً للشك ما انحدر إليه التفكير لدى قادة وزعماء العالم بأسره والمجتمع الدولي من نصره للدول المحتلة والظالمة على حساب الدول الضعيفة المسلوبة حريتها، والمغتصبة أرضها، والمنهوبة ثرواتها، كما أبرزت هذه القراءة غياب العدالة لدى المجتمع الدولي الذي يكيل لا أقول بمكيالين؛ لكن قد يكون بثلاثة أو أربعة أو أكثر من ذلك.
وصفوة القول وخلاصته: إن دراسة الداعية للواقع المحلي والإقليمي والدولي دراسة عميقة تمكنه من:
• التعرف على عوامل قوته بكل أشكالها.
• عوامل ضعفه بكل أحوالها.
• التعرف على حجم التحديات والمخاطر التي تحيط به من الداخل والخارج.
• استثمار الفرص المتاحة السانحة.
• تحديد مجالات النجاح ومجالات الإخفاق، من خلال الاستفادة من النقاط السابقة.
إن هذه القراءات المتعددة تعين الداعية في أداء رسالته، وتسانده في إنجاز مهمته، والقيام بالأدوار المرجوة منه نحو نفسه، ومجتمعه وأمته، بل والإنسانية جمعاء ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)﴾ (الأنبياء)، والعالم كما يراه الإمام البنا كله حائر يضطرب، وكل ما فيه من النظم قد عجز عن علاجه ولا دواء له إلا الإسلام، فتقدموا باسم الله لإنقاذه، فالجميع في انتظار المنقذ، ولن يكون المنقذ إلا رسالة الإسلام التي تحملون مشعلها وتبشرون بها.
وقبل كل هذه القراءات وبعدها؛ حسن الصلة بالله تعالى، وإخلاص الوجه له ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)﴾ (الأنعام)، فمنه تعالى يُـستمد المدد والرعاية ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ (160)﴾ (آل عمران)، ومنه تعالى يُـستجلب التوفيق والهداية ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)﴾ (العنكبوت)، ومنه تعالى يُستخرج النصر والتمكين ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (55)﴾ (النور)، ومنه تعالى يُرتجى الأجر والثواب في الآخرة مع النبيين والصدّقين والشهداء وحسن أولئك رفيقًا ﴿لَكِنْ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ (198)﴾ (آل عمران) ونعم أجر العاملين، والحمد لله رب العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق